نعم , نعم
يا منى البيماني لغات العالم عاجزة عن الترجمة
" لماذا
لا نستطيع أن نعبر عما يختمر في دواخلنا سوى بتلك العبارة الساخرة المريرة (عادي
وماشي الحال) هل لأن ما نشعر به تعجز لغات العالم عن ترجمته أو التعبير عنه , هل
لأن ما نعانيه من أحوال مريرة تجعل إجابتنا سطحية إلى هذا الحد ؟ أو بالأحرى هازلة
إلى هذا المستوى ".
نعم , نعم يا
منى البيماني لا فض فوك , لقد أصبت الهدف وضربت على الوتر الحساس . بتساؤلاتك
الجريئة تلك , البعيدة الغور والأعماق , شخصت يا أختنا الأديبة ذلك الداء العضال
الذي يشل الألسن ويخرس الأقلام , وبتنا معه لا نملك إلا هز رؤوسنا كالدراويش ,
وصار لدينا كل شيء , كل شيء على الإطلاق عاديا لا غرو فيه ولا غرابة , وبات حكيم
زماننا وعاقله هو من اعتنق مبدأ كونفوشيوس " لا أرى , لا أسمع , لا أتكلم
" رغم أنه يرى ما يتفطر له القلب , ويسمع ما يهز البدن ويسحق الوجدان يرى
ويسمع ما يبكي له الحليم ويضحك منه اللئيم , ويتمنى لو يستطيع أن يتقيأ شيء من
العلقم الذي يقطع حلقه , واللهب الذي يحرق جوفه فاها أو يراعا , ولكن دونه وذلك
خرط القتاد , فصوت الأنين نشاز , والنشاز قبيح , والقبيح مقرف لا بد وأن يزال ,
حال تجرعنا معه شتى صور الإحباط والخيبة والهوان , وصارت عندنا كل المواقف والصور
, على اختلافها رفعة أو ضعة , أمرا مألوفا ومعتادا , لا تستثير فينا ألما ولا أبوة
أو نخوة , لقد هانت علينا أنفسنا ومن هانت عليه نفسه كان على غيره أهون .
ومن يهن ـ كما
قال المتنبي ـ يسهل الهوان عليه ما
لجرح بميت إيلام
فكلنا إذا يا
أخت في الهم شرق .
إن مصائبنا
كبيرة وجراحاتنا الراعفة عميقة وكثيرة لا تتسع لذكرها هذه الصفحات , وقد لا يتسع
صدرها لها أيضا .
فمن مناهجنا
التعليمية التي حذفت عن ناشئتنا الصغار ذلك النشيد الوطني التليد , الذي عفا عليه
الزمن على ما يبدو نشيد :
بلادي بلادي ما
أحلاها بلادي بلادي أنا أهواهـا
أنا أحميهـا
أنـا أفديها هي في عيني أغلى درة
عاشت حرة عاشت حرة
واستبدلته
بنشيد وطني هادر جديد هو :
كرتي كرتي ما أحلاهـا
مـا
أحسنها ما أبهاهـا
إلى آخر ذلك النشيد الهزيل .
إلى ذلك المربي
الأول لأجيالنا المعاصرة – التلفزيون , ونهجه الفذ المخطط والمبرمج في نشر الثقافة
الكروية العميقة بين صفوف أجيالنا الصاعدة إلى حد أن صار معه أبناؤنا عشاقا لعروس
المجد المؤثل ( الكرة) فحسب , شغفتهم بطولاتها الأسطورية , واستحوذت على أفكارهم
أمجادها الباهرة السنية , فهاموا بها هياما أنساهم وأغناهم عن أمور دينهم ودنياهم ,
فصار هتافهم وشعارهم:
نحن الشباب لنا
الكرة والكأس أيضا والمرة
نحن الشباب
من بعد أن كان
هتافهم وشعارهم :
نحن الشباب لنا
الغد ومجده المخلد
نحن الشباب
إلى آخر ذلك
النشيد الذي أعتقد جازما بأنه ما عاد يعرفه سوى بقايا رعيل الستينات منا وربما
أوائل السبعينات فقط .
ومن قضايانا
القومية الكبرى وما آلت إليه وآل معها أصحابها إلى مستوى الحالين اللذين أحلاهما
مر , الحال التي عبر عنها المتنبي بقوله الرائع :
ومن نكد الدنيا
على الحر أن يرى عدوا له ما من صداقته
بد !!
والحال التي
عبر عنها عبد الرحيم محمود :
سأحمل روحي على
راحتي وألقي بها في مهاوي الردى
فـإمـا حياة
تسر الـصديق وإما ممـات يغيظ
الـعدى
إلى مأساة
الجزائر بلد (المليون شهيد ) على يد المستعمرين الفرنسيين التي أوشكت أن تكون على
النقيض ( بلد المليون ذبيح) بأيدي الجزائريين بعضهم البعض .
ومن شبابنا
الباحث , عبثا , عن لقمة العيش فلا يجدها وإن وجدها وجدها معفرة بالرمل والتراب ,
والإحباط والعذاب , شباب الثانوية الذين وجدوا أنفسهم , فجأة , مرميين على قارعة
الطرقات والأرصفة , أعياهم البحث عن فرصة العمل تؤمن لهم استمرار حياتهم وعيش
الكفاف , وتبعدهم عن الغرق في مستنقع الفراغ والضياع واليأس , فتفشت بينهم بالتالي
شتى صور السرطانات والآفات الاجتماعية .
إلى ضياع
ثروتنا القومية , ونهبها السافر من قبل أهل الغرب والشمال , ذلك الذهب الأسود الذي
صار حراما على بلابله الأيك , حلالا للطير من كل جنس , فنبيعه لهم بـ (10) دولارات
للبرميل الواحد , أي بعشرة دولارات فقط لكل (200) لتر منه ويبيعونه لنا بسعر (120)
بيسة للتر الواحد , أي بما لا يزيد قطعا عن (30) لتر فقط بـ (10) دولارات , فلو
افترضنا أنهم يحصلون بعد معالجته على (90) لترا فقط من البترول من كل برميل من
النفط الخام , إذن لكان المنهوب منه نهبا ضعفي قيمة شرائه منا وتكاليف تصفيته على
أقل تقدير , لأن تلك التكاليف أصلا محسوبة سلفا في ثمن بيعهم لنا للتر الواحد من
البترول الصافي بالإضافة إلى أرباحهم فيه , ناهيك عن المشتقات الألف التي تستخرجه
منه صناعاتهم البتروكيمياوية , فيبيعون لنا المشتق الواحد منه بأضعاف أضعاف سعر
شرائهم منا للبرميل الواحد .
وما أصدق من
قال في ذلك :
ومن الرزية أن
شاة عندنا بيدي قرناها وغيري يحلب
إلى ترقياتنا
التي احتجبت عنا في كثير من الوزارات الخدمية إلى أكثر من ثمان سنوات عجاف , تلك
الوزارات التي اهتمت بتشييد البنيان ونسيت بأن الأهم من ذلك كله هو تعضيد الإنسان
الذي بدونه أصلا لن يكون لأي بنيان أي قيمة أو أثر أو معنى , إن أمسى ذلك العامل
فيه محبطا خائر العزم والقوى .
ومن ... ومن
... وإلى ... وإلى ... , سلسلة طويلة من الحكايات الموجعة الأليمة ... حكايات كلنا
نسمع عنها أو نقرأ ... ولكن القيل منا من يتألم لها ويتفاعل معها أو يتعاطف , فكل
منا يغني على ليلاه , وكل عين تبكي على ما شجاها , ولأننا أيضا , وهذا هو المهم ,
نعيش في زمن فلسفته " أنا ومن بعدي الطوفان " ... ومن تألم منا أو توجع
آثر أن يدفن أنينه في صدره لئلا يتحول أنينه نحيبا , الصمت زين والسكوت سلامة .
لهذا كله أصبنا
بعمى الألوان وفقد الذاكرة وخدر الحس وبلادة المشاعر فلا عجب إن صارت كل الأشياء
والأفعال والأحداث التي تحدث من حولنا عادية وعبرنا عنها " بماشي الحال
" فما نحن فيه إن هو إلا تحصيل حاصل في نهاية التحليل .
وكأني بالمتنبي
كان يستشرف آفاق الزمن الذي نحن فيه حين قال قصيدته التي بدايتها:
"فـؤاد ما
تسليه المـدام وعمر مثلـما تهب
الـلئام
ودهر ناسه ناس
صغار وإن كانت لهم جثث ضخام "
وختاما ,
"لمثل هذا
يذوب القلب من كمد إن كان في القلب
إسلام وإيمان "
فعلى المتنبي
وعلى الرندي وأصداء صرختهما عبر السنين أزكى التحية والسلام .
زهران بن
زاهر الصارمي
1/3/1999م ـ إزكي/ إمطي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق