الأربعاء، 8 فبراير 2012


نعم , نعم يا منى البيماني لغات العالم عاجزة عن الترجمة

" لماذا لا نستطيع أن نعبر عما يختمر في دواخلنا سوى بتلك العبارة الساخرة المريرة (عادي وماشي الحال) هل لأن ما نشعر به تعجز لغات العالم عن ترجمته أو التعبير عنه , هل لأن ما نعانيه من أحوال مريرة تجعل إجابتنا سطحية إلى هذا الحد ؟ أو بالأحرى هازلة إلى هذا المستوى ".
نعم , نعم يا منى البيماني لا فض فوك , لقد أصبت الهدف وضربت على الوتر الحساس . بتساؤلاتك الجريئة تلك , البعيدة الغور والأعماق , شخصت يا أختنا الأديبة ذلك الداء العضال الذي يشل الألسن ويخرس الأقلام , وبتنا معه لا نملك إلا هز رؤوسنا كالدراويش , وصار لدينا كل شيء , كل شيء على الإطلاق عاديا لا غرو فيه ولا غرابة , وبات حكيم زماننا وعاقله هو من اعتنق مبدأ كونفوشيوس " لا أرى , لا أسمع , لا أتكلم " رغم أنه يرى ما يتفطر له القلب , ويسمع ما يهز البدن ويسحق الوجدان يرى ويسمع ما يبكي له الحليم ويضحك منه اللئيم , ويتمنى لو يستطيع أن يتقيأ شيء من العلقم الذي يقطع حلقه , واللهب الذي يحرق جوفه فاها أو يراعا , ولكن دونه وذلك خرط القتاد , فصوت الأنين نشاز , والنشاز قبيح , والقبيح مقرف لا بد وأن يزال , حال تجرعنا معه شتى صور الإحباط والخيبة والهوان , وصارت عندنا كل المواقف والصور , على اختلافها رفعة أو ضعة , أمرا مألوفا ومعتادا , لا تستثير فينا ألما ولا أبوة أو نخوة , لقد هانت علينا أنفسنا ومن هانت عليه نفسه كان على غيره أهون .
ومن يهن ـ كما قال المتنبي ـ يسهل الهوان عليه     ما لجرح بميت إيلام
فكلنا إذا يا أخت في الهم شرق .
إن مصائبنا كبيرة وجراحاتنا الراعفة عميقة وكثيرة لا تتسع لذكرها هذه الصفحات , وقد لا يتسع صدرها لها أيضا .
فمن مناهجنا التعليمية التي حذفت عن ناشئتنا الصغار ذلك النشيد الوطني التليد , الذي عفا عليه الزمن على ما يبدو نشيد :
بلادي بلادي ما أحلاها      بلادي بلادي أنا أهواهـا
أنا أحميهـا أنـا أفديها      هي في عيني أغلى درة
               عاشت حرة عاشت حرة
واستبدلته بنشيد وطني هادر جديد هو :
كرتي كرتي         ما أحلاهـا
مـا أحسنها          ما أبهاهـا
إلى آخر ذلك النشيد الهزيل .
إلى ذلك المربي الأول لأجيالنا المعاصرة – التلفزيون , ونهجه الفذ المخطط والمبرمج في نشر الثقافة الكروية العميقة بين صفوف أجيالنا الصاعدة إلى حد أن صار معه أبناؤنا عشاقا لعروس المجد المؤثل ( الكرة) فحسب , شغفتهم بطولاتها الأسطورية , واستحوذت على أفكارهم أمجادها الباهرة السنية , فهاموا بها هياما أنساهم وأغناهم عن أمور دينهم ودنياهم , فصار هتافهم وشعارهم:
نحن الشباب لنا الكرة      والكأس أيضا والمرة
                  نحن الشباب
من بعد أن كان هتافهم وشعارهم :
نحن الشباب لنا الغد     ومجده المخلد
              نحن الشباب
إلى آخر ذلك النشيد الذي أعتقد جازما بأنه ما عاد يعرفه سوى بقايا رعيل الستينات منا وربما أوائل السبعينات فقط .
ومن قضايانا القومية الكبرى وما آلت إليه وآل معها أصحابها إلى مستوى الحالين اللذين أحلاهما مر , الحال التي عبر عنها المتنبي بقوله الرائع :
ومن نكد الدنيا على الحر أن يرى    عدوا له ما من صداقته بد !!
والحال التي عبر عنها عبد الرحيم محمود :
سأحمل روحي على راحتي     وألقي بها في مهاوي الردى
فـإمـا حياة تسر الـصديق     وإما ممـات يغيظ الـعدى 
إلى مأساة الجزائر بلد (المليون شهيد ) على يد المستعمرين الفرنسيين التي أوشكت أن تكون على النقيض ( بلد المليون ذبيح) بأيدي الجزائريين بعضهم البعض .
ومن شبابنا الباحث , عبثا , عن لقمة العيش فلا يجدها وإن وجدها وجدها معفرة بالرمل والتراب , والإحباط والعذاب , شباب الثانوية الذين وجدوا أنفسهم , فجأة , مرميين على قارعة الطرقات والأرصفة , أعياهم البحث عن فرصة العمل تؤمن لهم استمرار حياتهم وعيش الكفاف , وتبعدهم عن الغرق في مستنقع الفراغ والضياع واليأس , فتفشت بينهم بالتالي شتى صور السرطانات والآفات الاجتماعية .
إلى ضياع ثروتنا القومية , ونهبها السافر من قبل أهل الغرب والشمال , ذلك الذهب الأسود الذي صار حراما على بلابله الأيك , حلالا للطير من كل جنس , فنبيعه لهم بـ (10) دولارات للبرميل الواحد , أي بعشرة دولارات فقط لكل (200) لتر منه ويبيعونه لنا بسعر (120) بيسة للتر الواحد , أي بما لا يزيد قطعا عن (30) لتر فقط بـ (10) دولارات , فلو افترضنا أنهم يحصلون بعد معالجته على (90) لترا فقط من البترول من كل برميل من النفط الخام , إذن لكان المنهوب منه نهبا ضعفي قيمة شرائه منا وتكاليف تصفيته على أقل تقدير , لأن تلك التكاليف أصلا محسوبة سلفا في ثمن بيعهم لنا للتر الواحد من البترول الصافي بالإضافة إلى أرباحهم فيه , ناهيك عن المشتقات الألف التي تستخرجه منه صناعاتهم البتروكيمياوية , فيبيعون لنا المشتق الواحد منه بأضعاف أضعاف سعر شرائهم منا للبرميل الواحد .
وما أصدق من قال في ذلك :
ومن الرزية أن شاة عندنا        بيدي قرناها وغيري يحلب
إلى ترقياتنا التي احتجبت عنا في كثير من الوزارات الخدمية إلى أكثر من ثمان سنوات عجاف , تلك الوزارات التي اهتمت بتشييد البنيان ونسيت بأن الأهم من ذلك كله هو تعضيد الإنسان الذي بدونه أصلا لن يكون لأي بنيان أي قيمة أو أثر أو معنى , إن أمسى ذلك العامل فيه محبطا خائر العزم والقوى .
ومن ... ومن ... وإلى ... وإلى ... , سلسلة طويلة من الحكايات الموجعة الأليمة ... حكايات كلنا نسمع عنها أو نقرأ ... ولكن القيل منا من يتألم لها ويتفاعل معها أو يتعاطف , فكل منا يغني على ليلاه , وكل عين تبكي على ما شجاها , ولأننا أيضا , وهذا هو المهم , نعيش في زمن فلسفته " أنا ومن بعدي الطوفان " ... ومن تألم منا أو توجع آثر أن يدفن أنينه في صدره لئلا يتحول أنينه نحيبا , الصمت زين والسكوت سلامة .
لهذا كله أصبنا بعمى الألوان وفقد الذاكرة وخدر الحس وبلادة المشاعر فلا عجب إن صارت كل الأشياء والأفعال والأحداث التي تحدث من حولنا عادية وعبرنا عنها " بماشي الحال " فما نحن فيه إن هو إلا تحصيل حاصل في نهاية التحليل .
وكأني بالمتنبي كان يستشرف آفاق الزمن الذي نحن فيه حين قال قصيدته التي بدايتها:
"فـؤاد ما تسليه المـدام       وعمر مثلـما تهب الـلئام
ودهر ناسه ناس صغار       وإن كانت لهم جثث ضخام "
وختاما ,
"لمثل هذا يذوب القلب من كمد      إن كان في القلب إسلام وإيمان "
فعلى المتنبي وعلى الرندي وأصداء صرختهما عبر السنين أزكى التحية والسلام .
زهران بن زاهر الصارمي
1/3/1999م  ـ إزكي/ إمطي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق