الأربعاء، 8 فبراير 2012


هذا الوطن و أزمة المهنموقف وقضية


رغم نار الغلاء التي تلتهم من حياتنا الأخضر و اليابس " كما تلتهم معاشات الموظفين ميزانية الدولة !! " ؛ قررت أن أقوم بعملية ترميم لمنزلي الذي لم تلمسه ، يد الترميم منذ قرابة العشرين عاماً ، قررت ذلك بعد حوار دار بيني و صديق حميم كانت خلاصته أن من لا ينتهز الفرصة اليوم  للقيام بأي مشروع للصيانة و البناء ، فلن يستطيعه الفرد العادي بكل تأكيد في السنوات القادمة ، فظاهرة الغلاء تسير من سيء لأسوء ، و ليس هناك فيما يبدو أية بارقة أمل في الحد منها أو سقف تقف عند حده ، طالما أن الخصم فيها هو الحَكَم!! ؛ فكيس الإسمنت صار اليوم أضعاف قيمته قبل سنوات بسيطة ، و طن الحديد أصبحت قيمته ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات ، فقلت ألحق على نفسي اليوم بتحويشة العمر ، قبل أن يجتاح البلاد تسونامي المشاريع السياحية الكبرى القادمة بعد حين، و قمت من فوري بالبحث عن الفئات و العناصر المختلفة المختصة بعملية البناء و الترميم ؛ و لم أنجح في العثور على مقاول أو عامل ماهر إلا بعد مضي قرابة الشهر من البحث المضني ، و جاء الذي يسمى بالعامل الماهر ، الوافد من شرقي آسيا بالطبع ، و بدأت معه المفاوضات الأشبه بمفاوضات الحل النهائي لقضية الشرق الأوسط :- " فهذا العمل لا بأس سيقوم  به ، و ذاك لا ، لا يمكنه القيام به ؛ لأنه يحتاج لوقت ، و هو مشغول جداً ،  لديه أكثر من اتفاقية عمل في أكثر من مكان "، و تمضي المفاوضات معه على هذا المنوال ، مع قيامه بتحديد المبلغ الذي يريد مطمئنا إلى عدم قدرتي على مجادلته ناهيك عن الرفض ، إذ لم يكن أمامي من حل سوى الرضوخ و الاستسلام لطلباته؛ لأن الراغبين في خدماته أمثالي من الغلابى واقفين بالطابور !... ثم جاءت الحاجة للنجار لإصلاح بعض الأبواب المخلوعة من مواقعها ، و أخذت أطوف على المناجر سائلاً راجياً متوسلاً أصحاب المهنة من العمالة الوافدة علني أجد من يشفق علي و على أبنائي من زمهرير الشتاء و قارس البرد فيتلطف بالقبول للمجيء معي لتركيب تلك الأبواب و إصلاح بعض ما بها من عطب ، و بعد لأي و جهد جهيد ترفق آخر النجارين بالولاية بالموافقة على تأدية المطلوب , لكنه إمعانا في النكاية اشترط أيضاً أن يكون العمل ليلا من السابعة مساء فصاعدا و ليس خلال ساعات النهار، أيضاً بحجة زحمة الأعمال عنده ، و حدد هو الآخر المبلغ الذي أراده دون قبول أدنى مساومة أو نقاش ، لأنه المتكرم و انا عنده الشحات ، و لا يصح أن يكون الشحات متشرطاً !! و ما كان لي مرة أخرى  سوى القبول و الرضاء ، كقبول المؤمن بالقضاء و القدر ، و كذلك كانت مأساتي و المعاناة ، إن لم  تكن أنكى و أشد ، مع الحداد و فني الكهرباء ومع العاملين بورشات الألمنيوم ؛ و وجدتني اصرخ من أعماقي في غيض و غضب و انكسار ؛ أين أبناء الوطن ؟! بل أين بُناته ؟! و وجدتني أيضاً في الوقت ذاته أردد في غير ما شعور مع جبران خليل جبران :" ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ، و تلبس مما لا تنسج ، و تشرب مما لا تعصر " و أضفت عليه ؛ و ويل لوطن يهمش أبناءه و يعتمد في بنائه و خدماته على الوافد الغريب .
إنه لهوان يندى له الجبين، و مذلة تعصر في الحلق العلقم و تبعث من الصدر الأنين ، أن يطلب المواطن بٍحُرِّ ماله خدمة من الخدمات المهنية فلا يجدها إلا بعد أن تضيق به الدنيا بما رحبت ، و عند من ؟ عند الوافد الغريب فحسب . في الوقت الذي تمتلئ فيه شوارعنا بمفتولي العضلات من شبابنا العماني الباحث عن العمل ، لاسيما الأفواج الألفية من أشباه المتعلمين الذين تلفظهم المدارس الثانوية على أرصفة المدن وأزقة الحارات كل عام ؛ و تساءلت في حيرة و ألم ، ترى أين دور وزارة القوى العاملة في حل هذه المشكلة الوطنية ؟ لماذا لا تقوم بدورها في تهيئة شبابنا و تأهيلهم للقيام بمثل هذه المهن ؟ أين معاهد التأهيل المهني عن هذه الفئات ؟  إلى متى نبقى معتمدين على غير أبناء هذا الوطن في القيام بالأعمال الحرفية و المهنية و الفنية التي لا يستغني عنها أي مواطن أو مقيم على أرض أي بلد من البلدان  ؟ ... و إني لأعلم بأني سأتهم بالتحامل على وزارة القوى العاملة ، و يرد علي ، و في تهكم ربما :-" بل أين أنت من معرفة منجزات هذه الوزارة و دورها الفعال في هذا الإطار ، فهناك العديد من المعاهد المهنية التي تم إقامتها و نشرها في مناطق عديدة من السلطنة ، يرقى عددها إلى الخمسة أو الستة معاهد ، كان آخرها افتتاح مركز شناص للتدريب المهني بتكلفة 1.6 مليون ريال و بطاقة استيعابية تصل إلى 360 متدرباً ، و هناك القطاع الخاص الملزم بنسب معينة بتعمين الوظائف بعد تأهيله و تدريبه أعدادا من الفئات الباحثة عن العمل " ..... و إني لمعترف بكل ذلك و مقدر له ، بل كنت وما زلت من المؤيدين و المدافعين عن سلسلة القوانين و الإجراءات التنظيمية التي أصدرها ذات يوم ليس بالبعيد معالي الشيخ عامر بن شوين  الحوسني الخاصة بتعمين عدد من الوظائف و الأعمال في هذا البلد ، و لكن مع كل تلك الجهود المشكورة بلا شك ، علينا أن نمتلك الجرأة و الشجاعة الأدبية بالاعتراف بأن هناك ندرة ترقى إلى مستوى الأزمة في فرص العمل ، و شح في الكادر المهني بشكل عام و الوطني منه بشكل خاص ؛ و أن الجهود المبذولة حتى الآن غير كافية ولا ترقى إلى مستوى وضع الحلول الناجعة للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة؛ فرغم مرور سبعة و ثلاثين عاما من عمر النهضة المباركة ، و رغم التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة و نطقه السامي منذ بداية عهده الميمون بأن هدف التنمية الوطنية في هذا البلد هو الإنسان العماني ، إذ بدونه و بدون تأهيله التأهيل العلمي و العملي السليم  لن تكون هناك نهضة أو تنمية حقيقية للبلاد ؛ نقول برغم كل ذلك فإن ما نشهده من تدخل لوضع قطار التنمية في مساره الصحيح في هذا الإطار ، إطار تأهيل القوى البشرية المحلية ، دون مستوى الطموح ،  بدليل ما نراه طافياً على السطح من جبل الجليد ، فالحكم على الأمور بخواتيمها في نهاية التحليل ، و واقع الحال بوجه عام لا يوحي  بالنتائج المأمولة من تلك الجهود المبذولة ، فأين مخرجات تلك المعاهد المهنية ؟!  أين أثرها و تأثيرها في الواقع المعاش ؟! أين ورش العمل الحرفية التي يتوافر بها العامل العماني الماهر و القادر على تلبية الاحتياج المجتمعي المتنامي لشتى المهارات و المهن ؟ فالمعطيات على الأرض تشير إلى بقاء الأمور ، في هذا الإطار ، بلا تطور أو تغير يذكر . فالكادر العماني غير موجود و الكادر الوافد محدود ، و بقيت بالتالي معاناة المواطن المحتاج لهذه الخدمات المهنية في ترد و ازدياد .
أما الحل الذي نراه ، بناءاً على فهمنا للأولويات التنموية في هذا الوطن ، فهي إعطاء الأولوية لهذا الجانب ، جانب التأهيل المهني . و ذلك بخلق و إنشاء معهد أو مركز مهني مكتمل التجهيز و متكامل التخصصات في كل منطقة ، إن لم يكن في كل ولاية من ولايات السلطنة . تستقطب فيها مخرجات الثانوية التي لم يسعفها الحظ في تكملة الدراسة أو الحصول على عمل بالإضافة لاستقطابها للمتسربين من المدارس في مستوياتها المختلفة ، ثم يقدم لهم ، أو للمتميزين الطموحين منهم على الأقل ،  من بعد التخرج الدعم المادي و المعنوي المخطط و المممنهج  لبدء مشوار الحياة العملي و المهني الذي يستفيدون منه في بناء حياتهم و قيام أسرهم ، كما يفيدون به في الوقت ذاته مجتمعهم بتوفير الخدمات الضرورية له . بذلك نوفر العدد اللامحدود من فرص العمل للباحثين عنه ، و نوفر الكادر الذي تتطلبه عمليات التنمية في سوق العمل ، و نقضي على الهاجس الذي يقض مضجع كل وطني غيور ، هاجس القنبلة الموقوتة المتشكلة تراكمياً و بشكل سنوي من مشردي الثانوية العامة الباحثين عن لقمة العيش في أزقة الحارات و شوارع المدن . فليتحول المجتمع العاطل الخامل إلى مجتمع فاعل وعامر بشتى المهارات المهنية و الفنية . و لنخلق في كل قرية إن لم نقل في كل بيت نواة من المهرة الفنيين والمهنيين ما يحقق بها المجتمع شيئاً من الاكتفاء الذاتي لتلك الخدمات الحيوية ؛ و هذا أمر ممكن و ممكن جداً لدى القطاع العام و الخاص إذا وجد الإحساس الصادق بحجم المعاناة و الحاجة الوطنية الملحة لتوافر هذه الخدمات الضرورية ، و من ثم النية المخلصة لوضع التدخلات المناسبة لسد هذا النقص الفاضح فيها . و هي خطوة ، لما لها من أهمية و من أثر إيجابي على مسار الحياة في شتى المناحي و المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية ، تضعها في أعلى سلم الأولويات . فلا بد للجهات المعنية بها من الالتفات إليها و إعطائها الاهتمام التي تستحقه لعلاجها و درأ تداعياتها السلبية . فبلادنا ليست بالكبيرة ، مقارنة بالعديد من البلدان ، و خيراتها وفيرة ، و كل ما يلزمها هو إعادة ترتيب سلم الأولويات في الصرف و الإنفاق !! .. أما الذريعة المتداولة في تبرير هذا العجز في القوى المهنية و الفنية القائل بترفع القوى البشرية الوطنية عن هذه المهن و استنكافها عن مزاولتها رغم التدريب الذي تتلقاه ؛ فمردود عليها في بساطة شديدة و هي أنه لو كان هناك توجيه و دعم صادق و حقيقي يستشعر منه المتدرب الفائدة و الجدوى الحقيقية ، لما فضل التشرد و التصعلك و خواء البطون على إقامة مشروعه الحلم ؛ فليس هناك من يرفس المائدة و هو جائع ظامئ إلا أن يكون به مس أو جنون ؛ و لا أخال الآلاف الذين يحكى عن تأهيلهم بهم كلهم هذا الخبال أو القصور في التفكير !!!  
إن طرح الرؤى المتصلة بالعملية التنموية و ترقيتها في أي بلد من البلدان ، و أخذ يد الشعوب فيها نحو العمل بها و تبنيها ، هي مهمة من صميم عمل الحكومات و واجب من واجباتها الوطنية إزاء شعوبها المسئولة عنها ؛ أما ترك مثل هذه الأمور الحيوية تجري في أعنتها ؛ أو الدعوة لإغفالها أو الإغفاء عنها فلن يحل المشكلة ، بل و لن يزيد الطين سوى بلة .    

                                                      زهران زاهر الصارمي
                                               ولاية إزكي – قرية إمطي
16/2/2008

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق