هذا الوطن و أزمة المهن
رغم
نار الغلاء التي تلتهم من حياتنا الأخضر و اليابس " كما تلتهم معاشات
الموظفين ميزانية الدولة !! " ؛ قررت أن أقوم بعملية ترميم لمنزلي الذي لم
تلمسه ، يد الترميم منذ قرابة العشرين عاماً ، قررت ذلك بعد حوار دار بيني و صديق
حميم كانت خلاصته أن من لا ينتهز الفرصة اليوم
للقيام بأي مشروع للصيانة و البناء ، فلن يستطيعه الفرد العادي بكل تأكيد
في السنوات القادمة ، فظاهرة الغلاء تسير من سيء لأسوء ، و ليس هناك فيما يبدو أية
بارقة أمل في الحد منها أو سقف تقف عند حده ، طالما أن الخصم فيها هو الحَكَم!! ؛ فكيس
الإسمنت صار اليوم أضعاف قيمته قبل سنوات بسيطة ، و طن الحديد أصبحت قيمته ثلاثة
أضعاف ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات ، فقلت ألحق على نفسي اليوم بتحويشة العمر ،
قبل أن يجتاح البلاد تسونامي المشاريع السياحية الكبرى القادمة بعد حين، و قمت من
فوري بالبحث عن الفئات و العناصر المختلفة المختصة بعملية البناء و الترميم ؛ و لم
أنجح في العثور على مقاول أو عامل ماهر إلا بعد مضي قرابة الشهر من البحث المضني ،
و جاء الذي يسمى بالعامل الماهر ، الوافد من شرقي آسيا بالطبع ، و بدأت معه
المفاوضات الأشبه بمفاوضات الحل النهائي لقضية الشرق الأوسط :- " فهذا العمل
لا بأس سيقوم به ، و ذاك لا ، لا يمكنه
القيام به ؛ لأنه يحتاج لوقت ، و هو مشغول جداً ،
لديه أكثر من اتفاقية عمل في أكثر من مكان "، و تمضي المفاوضات معه
على هذا المنوال ، مع قيامه بتحديد المبلغ الذي يريد مطمئنا إلى عدم قدرتي على
مجادلته ناهيك عن الرفض ، إذ لم يكن أمامي من حل سوى الرضوخ و الاستسلام لطلباته؛
لأن الراغبين في خدماته أمثالي من الغلابى واقفين بالطابور !... ثم جاءت الحاجة
للنجار لإصلاح بعض الأبواب المخلوعة من مواقعها ، و أخذت أطوف على المناجر سائلاً
راجياً متوسلاً أصحاب المهنة من العمالة الوافدة علني أجد من يشفق علي و على
أبنائي من زمهرير الشتاء و قارس البرد فيتلطف بالقبول للمجيء معي لتركيب تلك
الأبواب و إصلاح بعض ما بها من عطب ، و بعد لأي و جهد جهيد ترفق آخر النجارين
بالولاية بالموافقة على تأدية المطلوب , لكنه إمعانا في النكاية اشترط أيضاً أن
يكون العمل ليلا من السابعة مساء فصاعدا و ليس خلال ساعات النهار، أيضاً بحجة زحمة
الأعمال عنده ، و حدد هو الآخر المبلغ الذي أراده دون قبول أدنى مساومة أو نقاش ،
لأنه المتكرم و انا عنده الشحات ، و لا يصح أن يكون الشحات متشرطاً !! و ما كان لي
مرة أخرى سوى القبول و الرضاء ، كقبول المؤمن
بالقضاء و القدر ، و كذلك كانت مأساتي و المعاناة ، إن لم تكن أنكى و أشد ، مع الحداد و فني الكهرباء ومع
العاملين بورشات الألمنيوم ؛ و وجدتني اصرخ من أعماقي في غيض و غضب و انكسار ؛ أين
أبناء الوطن ؟! بل أين بُناته ؟! و وجدتني أيضاً في الوقت ذاته أردد في غير ما
شعور مع جبران خليل جبران :" ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ، و تلبس مما لا تنسج
، و تشرب مما لا تعصر " و أضفت عليه ؛ و ويل لوطن يهمش أبناءه و يعتمد في
بنائه و خدماته على الوافد الغريب .
إنه
لهوان يندى له الجبين، و مذلة تعصر في الحلق العلقم و تبعث من الصدر الأنين ، أن
يطلب المواطن بٍحُرِّ ماله خدمة من الخدمات المهنية فلا يجدها إلا بعد أن تضيق به
الدنيا بما رحبت ، و عند من ؟ عند الوافد الغريب فحسب . في الوقت الذي تمتلئ فيه
شوارعنا بمفتولي العضلات من شبابنا العماني الباحث عن العمل ، لاسيما الأفواج
الألفية من أشباه المتعلمين الذين تلفظهم المدارس الثانوية على أرصفة المدن وأزقة
الحارات كل عام ؛ و تساءلت في حيرة و ألم ، ترى أين دور وزارة القوى العاملة في حل
هذه المشكلة الوطنية ؟ لماذا لا تقوم بدورها في تهيئة شبابنا و تأهيلهم للقيام
بمثل هذه المهن ؟ أين معاهد التأهيل المهني عن هذه الفئات ؟ إلى متى نبقى معتمدين على غير أبناء هذا الوطن
في القيام بالأعمال الحرفية و المهنية و الفنية التي لا يستغني عنها أي مواطن أو
مقيم على أرض أي بلد من البلدان ؟ ... و
إني لأعلم بأني سأتهم بالتحامل على وزارة القوى العاملة ، و يرد علي ، و في تهكم
ربما :-" بل أين أنت من معرفة منجزات هذه الوزارة و دورها الفعال في هذا
الإطار ، فهناك العديد من المعاهد المهنية التي تم إقامتها و نشرها في مناطق عديدة
من السلطنة ، يرقى عددها إلى الخمسة أو الستة معاهد ، كان آخرها افتتاح مركز شناص
للتدريب المهني بتكلفة 1.6 مليون ريال و بطاقة استيعابية تصل إلى 360 متدرباً ، و
هناك القطاع الخاص الملزم بنسب معينة بتعمين الوظائف بعد تأهيله و تدريبه أعدادا
من الفئات الباحثة عن العمل " ..... و إني لمعترف بكل ذلك و مقدر له ، بل كنت
وما زلت من المؤيدين و المدافعين عن سلسلة القوانين و الإجراءات التنظيمية التي
أصدرها ذات يوم ليس بالبعيد معالي الشيخ عامر بن شوين الحوسني الخاصة بتعمين عدد من الوظائف و
الأعمال في هذا البلد ، و لكن مع كل تلك الجهود المشكورة بلا شك ، علينا أن نمتلك
الجرأة و الشجاعة الأدبية بالاعتراف بأن هناك ندرة ترقى إلى مستوى الأزمة في فرص
العمل ، و شح في الكادر المهني بشكل عام و الوطني منه بشكل خاص ؛ و أن الجهود المبذولة
حتى الآن غير كافية ولا ترقى إلى مستوى وضع الحلول الناجعة للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة؛
فرغم مرور سبعة و ثلاثين عاما من عمر النهضة المباركة ، و رغم التوجيهات السامية
لحضرة صاحب الجلالة و نطقه السامي منذ بداية عهده الميمون بأن هدف التنمية الوطنية
في هذا البلد هو الإنسان العماني ، إذ بدونه و بدون تأهيله التأهيل العلمي و العملي
السليم لن تكون هناك نهضة أو تنمية حقيقية
للبلاد ؛ نقول برغم كل ذلك فإن ما نشهده من تدخل لوضع قطار التنمية في مساره
الصحيح في هذا الإطار ، إطار تأهيل القوى البشرية المحلية ، دون مستوى الطموح
، بدليل ما نراه طافياً على السطح من جبل
الجليد ، فالحكم على الأمور بخواتيمها في نهاية التحليل ، و واقع الحال بوجه عام
لا يوحي بالنتائج المأمولة من تلك الجهود المبذولة
، فأين مخرجات تلك المعاهد المهنية ؟! أين
أثرها و تأثيرها في الواقع المعاش ؟! أين ورش العمل الحرفية التي يتوافر بها
العامل العماني الماهر و القادر على تلبية الاحتياج المجتمعي المتنامي لشتى
المهارات و المهن ؟ فالمعطيات على الأرض تشير إلى بقاء الأمور ، في هذا الإطار ،
بلا تطور أو تغير يذكر . فالكادر العماني غير موجود و الكادر الوافد محدود ، و
بقيت بالتالي معاناة المواطن المحتاج لهذه الخدمات المهنية في ترد و ازدياد .
أما
الحل الذي نراه ، بناءاً على فهمنا للأولويات التنموية في هذا الوطن ، فهي إعطاء
الأولوية لهذا الجانب ، جانب التأهيل المهني . و ذلك بخلق و إنشاء معهد أو مركز
مهني مكتمل التجهيز و متكامل التخصصات في كل منطقة ، إن لم يكن في كل ولاية من
ولايات السلطنة . تستقطب فيها مخرجات الثانوية التي لم يسعفها الحظ في تكملة
الدراسة أو الحصول على عمل بالإضافة لاستقطابها للمتسربين من المدارس في مستوياتها
المختلفة ، ثم يقدم لهم ، أو للمتميزين الطموحين منهم على الأقل ، من بعد التخرج الدعم المادي و المعنوي المخطط و
المممنهج لبدء مشوار الحياة العملي و
المهني الذي يستفيدون منه في بناء حياتهم و قيام أسرهم ، كما يفيدون به في الوقت
ذاته مجتمعهم بتوفير الخدمات الضرورية له . بذلك نوفر العدد اللامحدود من فرص
العمل للباحثين عنه ، و نوفر الكادر الذي تتطلبه عمليات التنمية في سوق العمل ، و
نقضي على الهاجس الذي يقض مضجع كل وطني غيور ، هاجس القنبلة الموقوتة المتشكلة
تراكمياً و بشكل سنوي من مشردي الثانوية العامة الباحثين عن لقمة العيش في أزقة
الحارات و شوارع المدن . فليتحول المجتمع العاطل الخامل إلى مجتمع فاعل وعامر بشتى
المهارات المهنية و الفنية . و لنخلق في كل قرية إن لم نقل في كل بيت نواة من
المهرة الفنيين والمهنيين ما يحقق بها المجتمع شيئاً من الاكتفاء الذاتي لتلك
الخدمات الحيوية ؛ و هذا أمر ممكن و ممكن جداً لدى القطاع العام و الخاص إذا وجد الإحساس
الصادق بحجم المعاناة و الحاجة الوطنية الملحة لتوافر هذه الخدمات الضرورية ، و من
ثم النية المخلصة لوضع التدخلات المناسبة لسد هذا النقص الفاضح فيها . و هي خطوة ،
لما لها من أهمية و من أثر إيجابي على مسار الحياة في شتى المناحي و المجالات
الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية ، تضعها في أعلى سلم الأولويات . فلا بد للجهات
المعنية بها من الالتفات إليها و إعطائها الاهتمام التي تستحقه لعلاجها و درأ
تداعياتها السلبية . فبلادنا ليست بالكبيرة ، مقارنة بالعديد من البلدان ، و
خيراتها وفيرة ، و كل ما يلزمها هو إعادة ترتيب سلم الأولويات في الصرف و الإنفاق
!! .. أما الذريعة المتداولة في تبرير هذا العجز في القوى المهنية و الفنية القائل
بترفع القوى البشرية الوطنية عن هذه المهن و استنكافها عن مزاولتها رغم التدريب
الذي تتلقاه ؛ فمردود عليها في بساطة شديدة و هي أنه لو كان هناك توجيه و دعم صادق
و حقيقي يستشعر منه المتدرب الفائدة و الجدوى الحقيقية ، لما فضل التشرد و التصعلك
و خواء البطون على إقامة مشروعه الحلم ؛ فليس هناك من يرفس المائدة و هو جائع ظامئ
إلا أن يكون به مس أو جنون ؛ و لا أخال الآلاف الذين يحكى عن تأهيلهم بهم كلهم هذا
الخبال أو القصور في التفكير !!!
إن
طرح الرؤى المتصلة بالعملية التنموية و ترقيتها في أي بلد من البلدان ، و أخذ يد
الشعوب فيها نحو العمل بها و تبنيها ، هي مهمة من صميم عمل الحكومات و واجب من
واجباتها الوطنية إزاء شعوبها المسئولة عنها ؛ أما ترك مثل هذه الأمور الحيوية
تجري في أعنتها ؛ أو الدعوة لإغفالها أو الإغفاء عنها فلن يحل المشكلة ، بل و لن
يزيد الطين سوى بلة .
زهران
زاهر الصارمي
ولاية إزكي – قرية إمطي
16/2/2008
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق