المثقف بين سندان
الطموح و مطرقة الواقع
" و يسقط عنك يا حلم القناع "عنوان
كتيب للشيخ الأديب أحمد بن علي الدرعي ....
و صيغة العنوان ، بدايةً ، تذكرنا بعناوين قصائد الشاعر فاروق جويدة المميزة
، المكون أغلبها من جمل شاعرية ، موحية بعيدة الدلالات ، تشد المرء إليها شداً ، و
تغريه لقراءتها .
من مثل " عندما يرحل الرفاق "
" السفر في الليالي المظلمة "
" في عينيك .. عنواني " و "
الحب في الزمن الحزين " و
" الصبح حلمٌ لا يجيء " و "
وطني لا يسمع أحزاني " و " كانت لنا أوطان " و " كانت لنا
أحلام " و "و تسقط بيننا الأيام
"
غير أن الشاعر فاروق له رأي مخالف و نظرة
مغايرة للمعاناة الناجمة عن سهر الليالي و التعب الذي نلقاه في مسيرة الحياة ، و
عن الزمن الذي ، في سوق نخاسته ، نبيع
أحلامنا بلا ثمن :-
" تعبٌ يعلمنا ... بأن العَدْوَ ... خلف
الحلم
يحيي النبض في القلب العليلْ
سهرٌ يعلمنا ... بأن الدفءَ ... في قمم
الجبالِ
و ليس في السهل الذليلْ
غير أن أسوء ما تعلمناه ... في زمن النخاسةِ
أن نبيعَ الحلمَ ... بالثمن الهزيلْ "
بيد أن الأديبين التقيا ، في نهاية المطاف ، حول
متلازمة الإحساس عند المثقف الرسولي المعاصر ، المتمثل في شعوره بعبثية الحياة
المتجسدة في حتمية المصير البائس للأحلام الإنسانية السامية النبيلة ، لاسيما في
زمن السماسرة و أسواق النخاسة . فالدرعي
سقطت عن أحلامه الأقنعة ، بعد اصطدامها بصخرة الواقع الصلد المحطم لكل حلم أو طموح
؛ و أظهرت له بالتجربة الملموسة ، كم كان بجماليونياً ، بل و كم كان بطلاً دونكيشوتياً
أحياناً أيضاً !!
و جويدة اكتشف حقيقة الزمن الرديء الذي نعيش فيه ، زمن الفساد و الكساد الذي صارت البضاعة الرائجة فيه ، هو بيع الضمائر و المتاجرة بآمال و أحلام الإنسانية المعذبة المسحوقة .
و جويدة اكتشف حقيقة الزمن الرديء الذي نعيش فيه ، زمن الفساد و الكساد الذي صارت البضاعة الرائجة فيه ، هو بيع الضمائر و المتاجرة بآمال و أحلام الإنسانية المعذبة المسحوقة .
على أن من يستطرد في قراءة هذا الكتيب ، سيجد
نفسه بعد حين أمام تراجيديا مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه " العبرات " ،
و أمام رومانسية " الأجنحة المتكسرة " لجبران خليل جبران ، فذاك ما توحي
به تعابيره التي منها على سبيل المثال لا الحصر :-
"و شاءت الأقدار أن يكون ذلك المكان
مقبرته الدائمة لحلمه الضائع و " ذهب إلى مكانه المعتاد مراراً و تكراراً ...
إنه المكان الذي لاح فيه حلمه من بعيد ..فلم يجد سوى أطلاله غارقة في صمتها الدائم
.. فتشبث بكل أمل يوصله إليه "
ثم هو بعد حين يطل علينا من بين السطور ، و
مما وراء الكلمات و أبعاد الجمل ، كواحد
من المناضلين الثوريين للقرن العشرين . كجمال عبد الناصر ، أو جيفارا ، و كاسترو ،
أو نيلسن مانديلا و ماو ... ذاك ما نلمحه في تعابيره المتناثرة في ثنايا الكتيب ،
مثل : "ستة عشر عاماً من الكفاح و النضال " , " وتكون بداية لمرحلة جديدة ، يبتدئ
فيها بخوض معركة حياته العملية " و
" تسير القافلة بهم ...... إلى أن تصل بهم أمام بناء شامخ تعلوه راية ترفرف
للمجد و الوطنية " .
تلك التعابير وغيرها تنم عن روح وطنية وثابة
، و مشاعر جياشة ، و طموحات سامقة عِراض ، و عن احتراق و انفعال داخلي عنيف ، تمور
به موراً نفس هذا الكاتب الأديب ، لم
يتمكن من كبتها، أو كبح جماحها ، فخرجت
كألسنة اللهب ، أو كالحمم المتطايرة التي ينفثها البركان قبيل انفجاره الكبير .
على أن هذا اللهب المتوقد ، و هذا الوهج
الساطع ، و يا للعجب ، سرعان ما يخبو و ينطفئ ، بل و يستحيل رماداً كابياً ، أو
برداً و صقيعاً يشل الحركة في الأوصال و تتجمد فيه الحياة ، و غدا الانكسار ،
انكسار الأماني و الأحلام النرجسية ، و تداعياتها المحبطة للنفس ، المثبطة للهمم ،
هي السائدة في باقي النص ، إلى حد استشعار القارئ بأن الكاتب يغرق ، و يختنق
بطوفان الأسى و أمواج الحزن و الألم المُمِض ... فها هو يصف لحظة فقده للحلم بقوله
: " صدمة ... مأساة ... انتكاسة مشاعر ، كانت تسبح في فضاء الأحلام يوماً ...
كانت بمثابة حقنة قاتلة ... و ليتها كانت قاتلة ... لكن وقعها بداخله زاد العذاب و
الألم و الضياع ... و استولت عليه قوى الظلام في عينيه .. ثم تاه كل شيء بداخله في
شوارع اليأس الظالم ." .....
و
يصل إلى منتهى الضعف و الضراعة بقوله : " حلمي الصغير ... أرجوك ... لقد سرق
ضياعك الأمل من وجودي ...كل شيء اسودَّ في مقلتي الحالمة .... فابق و لا تتركني
للعنة الحلم ... لا تتركني أبحر وحيداً في بحور الأماني الخالدة ... لا تترك اليأس
يسحقني ... فيا أيتها الهموم خذي جثماني القتيل ، ودعي حلمي الصغير يحييني ....
"
أي حلم هذا الذي يستحق فقدانه ، كل هذا
الإنكسار المعنوي و الانهيار النفسي ، فالبطل هو ليس الذي لا يكبو أو ينهزم ، بل
البطل هو من يستطيع النهوض من كبوته و يواصل المشوار ، و يحيل ، من ثَمَّ ، هزيمته
إلى انتصار ... و الأكثر من ذلك أنه يصف
حلمه المفقود "بالصغير" ، فكيف به لو كان ذلك الحلم كبيراً ، أو عظيماً
، يستوجب المخاطرة بعظيم ؟!!
هو حال يستدعي من الذاكرة الموقف المعاكس
لهذا الموقف ؛ إنه موقف أبي القاسم الشابي ، و هو يصارع الموت الحتمي القادم نحوه
بخطى وئيدة ثقيلة من داء السرطان العضال ،
حين قال :-
" سأعيش رغم الداء و الأعداء
كالنسر فوق
القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
بالسحب و الأمطار
و الأنواء
لا أعبأ الظل الثقيل و لا أرى
ما في قرار
الهوة السوداء
لا أعرف الشكوى الذليلة و البكاء
و ضراعة الأطفال و الضعفاء
لا يُطفئُ اللهبَ المؤججَ في دمي
موجُ الأسى و
عواصفُ الأرزاء
سأعيش كالجبار أرنو دائما
للفجر ، للفجر
الجميل النائي
النور في قلبي و بين جوانحي
فعلامَ
أخشى السير في الظلماء
إني أنا الناي الذي لا تنتهي
أنغامه ، ما دمت في الأحياء
و أنا الخِضمُ الرحبُ ، ليس تزيـده
إلا حـياةً سطوةُ الأنواء
إني إذا خمدت حيات و انتهى عمري
إني إذا خمدت حيات و انتهى عمري
و أخـرسـتِ
المنيـةُ نايي
و خبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
قد عاش مثل الشعلة الحمراء
فأنا السعـيد بأنني متحــــــــولٌ
عـن عـــالم الآثام و البغـضـــاء
هذا هو الموقف الحري بنا الاقتداء به ، و ترسم خطاه في هذه الحياة ،
"فما نيل المطالب بالتمني ... و لكن تؤخذ الدنيا غلابا " . و " لا
يمتطي المجد َ من لم يركبِ الخطرا
و لا ينال العلا من قدم الحذرا
و من أراد العلا عفواً بلا تعبٍ
مضى
و لم يقضِ من إدراكها وطرا "
ثم مَنْ مِنَ بني الإنسان ، عبر
مسيرة عمره التي قد تطول أو تقصر ، لاسيما ذوي الحجى و الطموح ، لم يكن ، أو لم يكتشف في يوم من الأيام بأنه ،
في بعض أمانيه ، كان بجماليونياً ، و بأنه ، في بعض طموحاته ، كان فنتازياً و بطلاً دونكيشوتياً ؟!..
لا أحد على الإطلاق سوى الأنبياء ربما ، و بعض العظماء من المفكرين أو
المصلحين ... و حتى هؤلاء لم ينالوا من الانتصار و الخلود ما نالوا ، إلاَّ بعد صبر
و مكابدة لمعاناة تنوء بوقرها الجبال ، بل
و بعد تضحيات جسام ، بلغت حد الطرد من الأوطان ،
و حد الحرق و الصلب ، و شرب السم
الزعاف بأيديهم ، فداء للمبادئ و القيم ، و ضريبة آمنوا بدفعها ثمناً لتحقيق ما
كان يجيش في أعماقهم من الأماني الخالدات و الأحلام الإنسانية الرائعة .
و الحل ، كل الحل ( كما قال صاحبنا الدرعي ذاته ) في " أن نبحث عن حلم آخر ، تساعدنا الأقدار
في الوصول إليه " كلما تحطم منا حلم
أو ضاع منا هدف ... أن ننحت لأنفسنا ألف "جالاتيا " و جالاتيا ، و ألاَّ
نقنع أو نكتفي بجالاتيا واحدة ، إذا ما سقطـت مع الزمن أو اندثرت ، سقطنا معها و
اندثرنا ، بل ينبغي أن يكون في حياتنا ألف غاية سامية ، و ألف هدف و هدف نبيل ؛
حياة عامرة بالأماني ، و أحلام اليقظة الموحية الرفيعة ؛ لأنه حينئذ ، و حينئذ فقط
، نكون أهلاً للحياة و صناعتها و معانقة آفاقها الرحبة اللامتناهية ، و عندها و
عندها فقط يكون لوجودنا طعماً ، و مبرراً و معنى .
" نعلل النفس بالآمال نرقبها
ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ."
زهران بن زاهر بن
حمود الصارمي
الجمعة 7/5/2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق