الأربعاء، 8 فبراير 2012


المثقف بين سندان الطموح و مطرقة الواقع
" و يسقط عنك يا حلم القناع "عنوان كتيب للشيخ الأديب أحمد بن علي الدرعي ....  و صيغة العنوان ، بدايةً ، تذكرنا بعناوين قصائد الشاعر فاروق جويدة المميزة ، المكون أغلبها من جمل شاعرية ، موحية بعيدة الدلالات ، تشد المرء إليها شداً ، و تغريه لقراءتها .
من مثل " عندما يرحل الرفاق " " السفر في الليالي المظلمة "
" في عينيك .. عنواني " و " الحب في الزمن الحزين " و
" الصبح حلمٌ لا يجيء " و " وطني لا يسمع أحزاني " و " كانت لنا أوطان " و " كانت لنا أحلام " و  "و تسقط بيننا الأيام "
غير أن الشاعر فاروق له رأي مخالف و نظرة مغايرة للمعاناة الناجمة عن سهر الليالي و التعب الذي نلقاه في مسيرة الحياة ، و عن الزمن الذي ،  في سوق نخاسته ، نبيع أحلامنا بلا ثمن :-
" تعبٌ يعلمنا ... بأن العَدْوَ ... خلف الحلم
يحيي النبض في القلب العليلْ
سهرٌ يعلمنا ... بأن الدفءَ ... في قمم الجبالِ
و ليس في السهل الذليلْ
غير أن أسوء ما تعلمناه ... في زمن النخاسةِ
أن نبيعَ الحلمَ ... بالثمن الهزيلْ "
بيد أن الأديبين التقيا ، في نهاية المطاف ، حول متلازمة الإحساس عند المثقف الرسولي المعاصر ، المتمثل في شعوره بعبثية الحياة المتجسدة في حتمية المصير البائس للأحلام الإنسانية السامية النبيلة ، لاسيما في زمن السماسرة و أسواق النخاسة .  فالدرعي سقطت عن أحلامه الأقنعة ، بعد اصطدامها بصخرة الواقع الصلد المحطم لكل حلم أو طموح ؛ و أظهرت له بالتجربة الملموسة ، كم كان بجماليونياً ، بل و كم كان بطلاً دونكيشوتياً أحياناً أيضاً !!
و جويدة اكتشف حقيقة الزمن الرديء الذي نعيش فيه ، زمن الفساد و الكساد الذي صارت البضاعة الرائجة فيه ، هو بيع الضمائر و المتاجرة  بآمال و أحلام الإنسانية المعذبة المسحوقة   .
على أن من يستطرد في قراءة هذا الكتيب ، سيجد نفسه بعد حين أمام تراجيديا مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه " العبرات " ، و أمام رومانسية " الأجنحة المتكسرة " لجبران خليل جبران ، فذاك ما توحي به تعابيره التي منها على سبيل المثال لا الحصر :-
"و شاءت الأقدار أن يكون ذلك المكان مقبرته الدائمة لحلمه الضائع و " ذهب إلى مكانه المعتاد مراراً و تكراراً ... إنه المكان الذي لاح فيه حلمه من بعيد ..فلم يجد سوى أطلاله غارقة في صمتها الدائم  .. فتشبث بكل أمل يوصله إليه "  
ثم هو بعد حين يطل علينا من بين السطور ، و مما وراء الكلمات  و أبعاد الجمل ، كواحد من المناضلين الثوريين للقرن العشرين . كجمال عبد الناصر ، أو جيفارا ، و كاسترو ، أو نيلسن مانديلا و ماو ... ذاك ما نلمحه في تعابيره المتناثرة في ثنايا الكتيب ، مثل : "ستة عشر عاماً من الكفاح و النضال "  , " وتكون بداية لمرحلة جديدة ، يبتدئ فيها بخوض معركة حياته العملية "  و " تسير القافلة بهم ...... إلى أن تصل بهم أمام بناء شامخ تعلوه راية ترفرف للمجد و الوطنية " .
تلك التعابير وغيرها تنم عن روح وطنية وثابة ، و مشاعر جياشة ، و طموحات سامقة عِراض ، و عن احتراق و انفعال داخلي عنيف ، تمور به موراً نفس هذا  الكاتب الأديب ، لم يتمكن من كبتها،  أو كبح جماحها ، فخرجت كألسنة اللهب ، أو كالحمم المتطايرة التي ينفثها البركان قبيل انفجاره الكبير .
على أن هذا اللهب المتوقد ، و هذا الوهج الساطع ، و يا للعجب ، سرعان ما يخبو و ينطفئ ، بل و يستحيل رماداً كابياً ، أو برداً و صقيعاً يشل الحركة في الأوصال و تتجمد فيه الحياة ، و غدا الانكسار ، انكسار الأماني و الأحلام النرجسية ، و تداعياتها المحبطة للنفس ، المثبطة للهمم ، هي السائدة في باقي النص ، إلى حد استشعار القارئ بأن الكاتب يغرق ، و يختنق بطوفان الأسى و أمواج الحزن و الألم المُمِض ... فها هو يصف لحظة فقده للحلم بقوله : " صدمة ... مأساة ... انتكاسة مشاعر ، كانت تسبح في فضاء الأحلام يوماً ... كانت بمثابة حقنة قاتلة ... و ليتها كانت قاتلة ... لكن وقعها بداخله زاد العذاب و الألم و الضياع ... و استولت عليه قوى الظلام في عينيه .. ثم تاه كل شيء بداخله في شوارع اليأس الظالم ." .....
 و يصل إلى منتهى الضعف و الضراعة بقوله : " حلمي الصغير ... أرجوك ... لقد سرق ضياعك الأمل من وجودي ...كل شيء اسودَّ في مقلتي الحالمة .... فابق و لا تتركني للعنة الحلم ... لا تتركني أبحر وحيداً في بحور الأماني الخالدة ... لا تترك اليأس يسحقني ... فيا أيتها الهموم خذي جثماني القتيل ، ودعي حلمي الصغير يحييني .... "
أي حلم هذا الذي يستحق فقدانه ، كل هذا الإنكسار المعنوي و الانهيار النفسي ، فالبطل هو ليس الذي لا يكبو أو ينهزم ، بل البطل هو من يستطيع النهوض من كبوته و يواصل المشوار ، و يحيل ، من ثَمَّ ، هزيمته إلى انتصار ...  و الأكثر من ذلك أنه يصف حلمه المفقود "بالصغير" ، فكيف به لو كان ذلك الحلم كبيراً ، أو عظيماً ، يستوجب المخاطرة بعظيم ؟!!
هو حال يستدعي من الذاكرة الموقف المعاكس لهذا الموقف ؛ إنه موقف أبي القاسم الشابي ، و هو يصارع الموت الحتمي القادم نحوه بخطى وئيدة ثقيلة  من داء السرطان العضال ، حين قال :-
" سأعيش رغم الداء و الأعداء
                                كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
                              بالسحب و الأمطار و الأنواء
لا أعبأ الظل الثقيل و لا أرى
                                  ما في قرار الهوة السوداء
لا أعرف الشكوى الذليلة و البكاء
                               و ضراعة الأطفال و الضعفاء
لا يُطفئُ اللهبَ المؤججَ في دمي
                              موجُ الأسى و عواصفُ الأرزاء
سأعيش كالجبار أرنو دائما
                               للفجر ، للفجر الجميل النائي
النور في قلبي و بين جوانحي
                         فعلامَ أخشى السير في الظلماء

إني أنا الناي الذي لا تنتهي
                              أنغامه ، ما دمت في الأحياء
و أنا الخِضمُ الرحبُ ، ليس تزيـده
                                   إلا حـياةً سطوةُ الأنواء
إني إذا خمدت حيات و انتهى عمري
                                    و أخـرسـتِ المنيـةُ نايي
و خبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
                                    قد عاش مثل الشعلة الحمراء
فأنا السعـيد بأنني متحــــــــولٌ
                                  عـن عـــالم الآثام و البغـضـــاء
هذا هو الموقف الحري بنا الاقتداء به ، و ترسم خطاه في هذه الحياة ، "فما نيل المطالب بالتمني ... و لكن تؤخذ الدنيا غلابا " . و " لا يمتطي المجد َ من لم يركبِ الخطرا
                                       و لا ينال العلا من قدم الحذرا
و من أراد العلا عفواً بلا تعبٍ
                             مضى و لم يقضِ من إدراكها وطرا "
 ثم مَنْ مِنَ بني الإنسان ، عبر مسيرة عمره التي قد تطول أو تقصر ، لاسيما ذوي الحجى و الطموح  ، لم يكن ، أو لم يكتشف في يوم من الأيام بأنه ، في بعض أمانيه ، كان بجماليونياً ، و بأنه ، في بعض طموحاته ،  كان فنتازياً و بطلاً دونكيشوتياً ؟!..  
لا أحد على الإطلاق سوى الأنبياء ربما ، و بعض العظماء من المفكرين أو المصلحين ... و حتى هؤلاء لم ينالوا من الانتصار و الخلود ما نالوا ، إلاَّ بعد صبر و مكابدة  لمعاناة تنوء بوقرها الجبال ، بل و بعد تضحيات جسام ، بلغت حد الطرد من الأوطان ،  و حد الحرق و  الصلب ، و شرب السم الزعاف بأيديهم ، فداء للمبادئ و القيم ، و ضريبة آمنوا بدفعها ثمناً لتحقيق ما كان يجيش في أعماقهم من الأماني الخالدات و الأحلام الإنسانية الرائعة .
و الحل ، كل الحل ( كما قال صاحبنا الدرعي ذاته )  في " أن نبحث عن حلم آخر ، تساعدنا الأقدار في الوصول إليه "  كلما تحطم منا حلم أو ضاع منا هدف ... أن ننحت لأنفسنا ألف "جالاتيا " و جالاتيا ، و ألاَّ نقنع أو نكتفي بجالاتيا واحدة ، إذا ما سقطـت مع الزمن أو اندثرت ، سقطنا معها و اندثرنا ، بل ينبغي أن يكون في حياتنا ألف غاية سامية ، و ألف هدف و هدف نبيل ؛ حياة عامرة بالأماني ، و أحلام اليقظة الموحية الرفيعة ؛ لأنه حينئذ ، و حينئذ فقط ، نكون أهلاً للحياة و صناعتها و معانقة آفاقها الرحبة اللامتناهية ، و عندها و عندها فقط يكون لوجودنا طعماً ، و مبرراً و معنى .
" نعلل النفس بالآمال نرقبها
                               ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ."

                     زهران بن زاهر بن حمود الصارمي
الجمعة  7/5/2010

                                                                 

      

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق