الأربعاء، 8 فبراير 2012


لماذا يا أبا عمـــار

  

         ما أن وقعت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 بأمريكا وتهاوى مبنى التجارة العالمية بنيويورك حتى تهاوت معه الكرامة وبيع الضمير وسقطت الأقنعة في كثير من دول العالم وبقاع الأرض ، وتنادت الثعالب والأرانب والجرذان من كل حدب وصوب لنداء ونجدة “ الأسد الجريح “، وامتلأ الفضاء بضجيج بغاث الطير ، ونقيق الضفادع وثغاء الشاه والماعز ، تعاطفاً مع ملك الغابة، وشجباً واستنكاراً لما حدث له ، ونست لحظة هلعها وتهافتها والتهالك ، ما كانت تلقاه من هذا الوحش الكاسر من نهش وافتراس وتمزيق لأوصالها وحرماتها وحقوقها وقيمها منذ قرابة قرن من الزمن ، وهي حال من حضيض المذلة والهوان ، والجبن والخور تذكرنا بما قاله ووصفه الأفذاذ من كبار النفوس ذوو الإباء والشمم من أبناء هذه الأمة الغابرين ... تذكرنا بلحظات الانكسار المريرة التي عاشها أبو العلاء المعري إلى الحد الذي جعله يزهد في الحياة حين قال :-

ولما رأيت الجهل في الناس فاشياً
فواعجبا كم يدعي الفضل ناقصٌ
فيا موت زُرْ إن الحياة ذميمةٌ


تجاهلتُ حتى ظُن أني جاهلُ
و وا أسفا كم يدعي النقص فاضلُ
ويا نفس جدي إن دهرك هازلُ


       وتذكرنا بالوصف البليغ الذي أطلقه شاعر العروبة (أبو الطيب المتنبي) على المستمرئين لحال المذلة والهوان تحت شعار التعقل أو الحلم بقوله :-
كل حلم أتي بغير اقتدار
من يهن يسهل الهوان عليه


حجة لاجئ إليها اللئام
ما لجرح بميت إيلام

       بل وهي حال تذكرنا أيضا خير ما تذكرنا به ، قصيدته الرائعة التي وصف فيها زمان هو أشبه ما يكون بالزمان الذي نحن فيه ، فما أشبه الليلة بالبارحة حين قال :-
فؤادٌ ما تسليه المدامُ
ودهرٌ ناسه ناسٌ صغارٌ
أرانب غير أنهموا ملوكٌ
بأجسام يحرُّ القتل فيها
وخيلٌ لايخر لها طعينٌ
وشبه الشيء منجذبٌ إليه
ولو لم يعلُ إلا ذو محلٍ
بأرضٍ ما اشتهيتَ رأيت فيها


وعمرٌ مثلما تهبُ اللئامُ
وإن كانت لهم جثثٌ ضخامُ
مفتحةٌ عيونهم نيامُ
وما أقرانها إلا الطعامُ
كأن قنا فوارسها ثمامُ
وأشبهنا بدنيانا الطغامُ
تعالى الجيش وانحط القتامُ
وليس يعوزها إلا الكرامُ

       ولكني لم أتعجب ولم أتألم كثيراً من بيع باكستان – مثلاً - لقريبتها في الدم والرحم والمعتقد والمذهب أفغانستان ، تحت ذريعة الحفاظ على المكتسبات وحفظ الأمن القومي ، ولم أتعجب من شجب السودان المصفوع على خده ، في الأمس القريب ، بالقصف الأمريكي على مصنع الشفاء فيه .. لم أتعجب من أسفه على ما حل بمسترقِّه وكائل اللطمة له ، وشجبه لما أسماه بالإرهاب الممارس على سادته البيض . ولم أتعجب من ليبيا – القذافي المحاصرة اقتصاديا منذ حادثة لوكربي والمضروبة ضرباً مهيناً بالطيران الأمريكي في ميناء سرت قبل قرابة الست أو سبع سنوات فقط ، القذافي المقصوف قصره الرئاسي و المقتولة ، أمام عينه ،  فلذة كبده في الغارة الأمريكية الرعناء على بلده ، لم أتعجب من إدانته لما يُسمى بالإرهاب وتملقه للعم المنكوب سام ... كما لم أتعجب كثيراً من تمسح المارد الأحمر المشلول بحذاء اليانكي العتيد.
       أجل ! لم أتعجب من خنوع واستسلام كل أولئك مجتمعين ، وارتعاد فرائصهم من زئير أسدهم المجروح ، فكل تلك البلدان وما بها من أنظمة انتهازية ليس لها ، كما أثبتت الأيام ، خطوط حمراء ولا ثوابت في معتقداتها والقيم ... نعم لم أتعجب من أولئك قدر تعجبي وتألمي من الخنوع والاستسلام المهين والمشين الذي أبداه ياسر عرفات ، ذاك الذي تسلم ، ذات يوم ليس بالبعيد ، راية الثورة العالمية من فون جياب القائد العسكري الفذ للثورة الفيتنامية العظيمة التي ضربت أروع الأمثال في قدرة الشعوب الضعيفة والجماهير المسحوقة على عرك أنف المعتدي بالرُغام واسترداد كرامتها وحقوقها منه مهما كانت قوته وجبروته ... وهِمتُ على وجهي حائراً مفكراً أبحث عن جواب يشفي غليلي ويهدئ من روعي الممض . , و إذا بي ، ويالروعة الصدف ، أجد نفسي وجهاً لوجه مع من كنت أفكر فيه ، مع أبي عمار ياسر عرفات ... ومن فرحي الغامر بلقائه ، أملاً في فك الطلاسم والأحاجي التي تعصف بعقلي ، واستغلالاً للفرصة التي أخشى ضياعها مني قبل إشفاء الغليل وإرواء ظمئي والفضول ، قلتُ له بلا مقدمات :-
       أبا عمار ! ما هذا الذي نرى ونسمع عنك ؟! تتبرع بدمك لقتلة شعبك ومغتصبي أرضك ، ولم تفعل ذلك مع آلاف الجرحى من أبناء وطنك ، وتعلن وقف الانتفاضة الظافرة وتنسى في غمضة عين التضحيات الجسام التي قدمها الآلاف من أبطالها الشرفاء أطفالاً ورجالاً ونساءً ، بل وتأمر الأحرار بالامتناع عن الرد حتى دفاعاً عن النفس ، وتعلن على الملأ بلا خجل ولا وجل انقلابك بزاوية 180 درجة ،  بوضعك إمكانات الثورة تحت إمرة من قامت ضدهم من الصهاينة والمستعمرين ، أي تسليمكها إياهم لقمة سائغة وارتمائك في أحضانهم ارتماء الخانع المستسلم الذليل . والأنكى من ذلك أنك صرت زندهم وذراعهم الحديدية . فقمت ، دون أن يرف لك جفن أو يندى لك جبين ، بقمع الأحرار الموتورين من شعبك وتطلق عليهم النار ، لا لذنب اقترفوه نحوك ، بل لمجرد أنهم عبروا عن تعاطفهم الوجداني مع الشعب الأفغاني المسلم في محنته مع الغزو الأمريكي – البريطاني الغاشم ، أو لمجرد أنهم عبروا عن امتنانهم لمن يقف إلى جانبهم ويرفع الصوت عالياً لنصرتهم وتأييد قضيتهم ، أسامه بن لادن. بل ووصلت الوقاحة وقلة الحياء لدى وزيرك الإعلامي ياسر عبد ربه بتشبيه أسامه بن لادن البطل الثائر المسلم ، بشارون السفاح الصهيوني الآثم.
يا غارةَ الله كم نرضى مهانتنا
أين العزائم أين النخوة انتقلت
أين الشكائم في الإسلام ما فعلت
سلوا القبور التي ضمت أصولكم
تمشون هوناً كأن الزهد أثقلكم


والسيف يرفع أقواماً وإن هانوا
أين الحفاظ وأين العز والشأن
أظنها مع آباء لنا بانوا
هل واطنوا الذل أم في دينهم هانوا
وانتموا بهوان النفس ثُقلانُ

       وما أن وصلت عند هذا الحد من تداعيات الحديث حتى رفع لي أبو عمار رأسه ونظر في عيني وأنا ألهث من شدة الانفعال ، وقال لي : حنانيك وحلمك علينا يا صديق ... بداية ، أما أنت الذي حاورتني يوم مددت يدي لمصافحة رابين عند عقد اتفاقية غزا – أريحا قبل قرابة عقد من الزمن ؟ قلت له : نعم ، أنا هو ذاك ؛ قال : أتذكر ما قلته لك يومها وما ودعتك به من قول ؟
قلت : نعم ، ما زلتُ أذكر أنك قلت لي "أنا ومن بعدي الطوفان ، طوفان نوح "
قال : أجل طوفان نوح الذي لايبقي إلا على من يستحق الحياة.
قلت له : ممن ؟
قال في لهجة صارمة : منا ومنهم ومن الناس أجمعين.
قلت له : لم أفهم ما ترمي إليه.
قال لي متسائلاً في خبث : أين رابين الآن ؟
قلت له : مات مغتالاً من قبل أحد اليهود المتعصبين.
قال : بل قل قتلته إسرائيل ذاتها حين أدركت ، بعد فوات الأوان ، البعد الاستراتيجي لاتفاق غزا- أريحا ، ووجدت أنه في نهاية المطاف سيقلب عليها الطاولة ، وينقلب السحر على الساحر ... أنظر وتأمل أين وكيف كنا كثورة وكفلسطينيين قبل اتفاق غزا – أريحا ، وأين وكيف أصبحنا بعد الاتفاق ... كنا قبل الاتفاق شراذم مطاردة في كل أصقاع الأرض ، ليس لنا موطئ قدم في أرضنا السليبة وصار لنا اليوم بعد الاتفاق ليس موطئ قدم في وطننا فحسب ، بل وكيان موحد ومؤسسات دولة ... إن اتفاق غزا – أريحا قد نقل الصراع وحوله من مناوشات تقع خارج الحدود إلى انتفاضة جماهيرية هادرة تقض مضجع العدو في عقر داره ، وصارت ثورتنا لا مجرد شوكة في خاصرته وانما عظمة مميتة في حلقه فلا هو قادر على بلعها ولا هو قادر على لفظها أو إخراجها منه.
       فقلت له مقاطعاً : ولكن ما تسميه بالأراضي المحررة إن هي إلا مصيدة وشَرَك للثورة الفلسطينية وللشرفاء من مناضليها ، والدولة الفلسطينية التي تزعمها ليس لها وجود ولاكيان معترف به ، وأنت ذاتك أحجمت وماطلت وترددت أكثر من مرة عن إعلانها ، رضوخا لرغبات عدوك ونزولا عند نصائح أصدقائك الأعداء ... أي أراض محررة هذه والأمن فيها ليس لك كسلطة وطنية بل لعدوك الغاصب المحتل ، وأي سلطة أو حكومة هذه التي تدعيها وليس لها كما قلت أنت رئيسها ، حتى حق الدفاع عن النفس ... الأراضي التي تسميها بالمحررة هي ليست في حقيقة أمرها كما أثبتت الأيام سوى فخ نصبته لكم الصهيونية والإمبريالية العالمية ، لتصطاد به وتتخلص ممن استعصى عليها اصطياده والتخلص منه في أرض الشتات ، فصار من كانوا يقضون مضجعها في أصقاع الأرض ، ولا تستطيع الوصول إليهم وتصفيتهم إلا بشق النفس وغالي الثمن ، صاروا بين فكي التمساح ، تطبق عليهم أشداقها خلال بضع دقائق ، ساعة تشاء ، أي صيَّرتهم إسرائيل كما قال طرفة بن العبد " لَكالطِّوَلِ  المُرخى وثنياه باليد " ... أجل ! أنتم بكيانكم الهزيل ذاك وفرتم على عدوكم الكثير من الجهود والمشقة والعناء في البحث والتقصي عنكم وعن أبطالكم الأحرار ، وصارت إسرائيل تصول فيكم وتجول دونما أدنى رادع أو زاجر ، و أصبحت تغتالكم وتذبحكم ذبح النعاج وأنتم خلف مكاتبكم أو نياماً في أسرّتكم ، من بعد أن كان الفدائي منكم لايخر صريعاً إلا وتخر معه جباه الصهاينة أمواتاً وأحياءً .
       أنا أرى العكس ياسيدي ، فلا أرى البعد الاستراتيجي لاتفاقات أوسلو واتفاق غزا – أريحا وغيرها من الاتفاقات مع الكيان الصهيوني سوى ذر للرماد في العيون ، وغير إعطائكم للفتات الذي يتجمع الطير حوله ويحط عليه الصقر من عالي سمائه فيسهل على القناص ضربه واصطياده ... يا سيدي ! أية حرية هذه التي تتحدث عنها ، وأية كرامة وأنت محاصر ومهان ومذل ، حرماتكم مستباحة ، ومنازلكم تهدم على رؤوس قاطنيها ، وجنود العدو يعيثون فساداً في قراكم والأزقة ، سلباً ونهباً وتدميراً شهاراً جهاراً ، وليس لكم ، إزاء ذلك كله  غير الشجب والاستنكار والشكوى الذليلة والمهينة ، ولمن ؟! .. لمن لولاهم لما كان لإسرائيل وجود في الأصل  ! ... يا سيدي ! هذه حياةٌ تحيونها لا يُسر بها صديق ، وموتٌ عاجلٌ وآجلٌ تموتونه لايغتاظ له العِدى.
       يا سيدي ! ليس من أحد ينكر تضحياتك الجسام ، ولادورك في إذكاء نار الثورة وقيادتها ، ولكنا نأسى عليك ونخشى أن تكون النهاية أليمة أو مغايرة لأهداف وآمال البداية العظيمة.
يا سيدي !
إذا غامرتَ في شرفٍ مرومِ
فطعم الموت في أمرٍ حقيرٍ


فلا تقنع بما دون النجومِ
كطعم الموت في أمرٍ عظيمِ

يا سيدي !
ذلَّ من يغبط الذليل بعيشٍ


رُبَّ عيشٍ أخف منه الحِمَامُ

       القضية ليست في كيف يكون الموت ، بل في كيف تكون الحياة ، والحياة التي ينشدها الأحرار في كل زمان وأي مكان هي ليست بالحياة التي أنتم ترتضونها لأنفسكم ولشعبكم الآن ، وإنما منطق الأحرار يقول ، كما قال عنترة من قديم الزمن :
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ
ماءُ الحياةِ بذلةٍٍ كجهنمٍ


بل فاسقني بالعز كاس الحنظلِ
وجهنمٌ بالعز أطيبٌ منزلِ

       وقضية الأوطان من سالف الأزمان ومنذ كان على هذه الأرض الإنسان ، ليس فيها مساومة ولا أنصاف حلول ، فليس هناك في القاموس السياسي أو الإنساني أو الاجتماعي شيء اسمه نصف وطن ، ولا نصف المواطنة ، بل هناك وطن واحد متكامل ، يتمتع فيه كل قاطنيه الأصليين بحقوق المواطنة الكاملة ، التي تضمنها له وتكفلها المواثيق والأعراف الإنسانية والدولية.
عندها رفع أبو عمار يده مقاطعاً ، وقال لي في غيظ وحنق : كفاك يا هذا لم ينقصك إلا اتهامي الصريح بالخيانة العظمى ، أنت مثال للعرب المشهورين بالخطابة والعنتريات التي ما قتلت ذبابة ... وأنا لا أريد أن أطعن في قناتك أو قناة أمثالك من الخطباء القابعين في أبراجهم العاجية ، الناظرين من نوافذهم الوردية إلى حروبنا ومآسينا الأليمة . نعم أنا لا أريد أن أغمز في قناتكم ولكني أذكركم فقط بالقول العربي البليغ :
" زيادة القول على الفعل رذيلة
وزيادة الفعل على القول فضيلة "
أو الأفصح منه قول الله سبحانه وتعالى :
[ يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون ، كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالاتفعلون ] ... أينكم أيها الثوريون العرب ، أرونا شطارتكم وثوريتكم والحمية . الساحة مفتوحة أمامكم والخيل مسرجة لاينقصها سوى الفرسان ، فهيا دونكم ومضارب الخيل وحومات الوغى ، وأضربوا لنا مثال البطولة والفدى ... نحن ، من جهتنا ، كائنا من نكون ، أتينا بما عندنا وقدمنا ما قدرنا عليه ، فأتوا أنتم بما عندكم – غير القول والخطب العصماء - وقدموا للقضية ما عساكم تقدرون عليه ... ومن بعد ذلك قفوا منا وقفة النقد والتشهير والتجريح ... القضية الفلسطينية قضية فريدة في التاريخ ... فريدة في أحوالها الجغرافية والديمغرافية والسياسية والإقتصادية والعسكرية ... وهي فريدة وغريبة ومعقدة قدر فرادة وغرابة وتعقيد الزمن الذي وجدت فيه ... القضية الفلسطينية ليست كباقي قضايا الاستعمار القديم أو الحديث ، فهي ليست قضية سلب ونهب لثروات وخيرات بلد فحسب ، وإنما هي قضية اغتصاب واستيطان لأرض ، وطرد وتشريد لشعب من منازله ودياره ... وفلسطين المحتلة من قبل الصليبيين والفرنجة هي غير فلسطين السليبة من قبل اليهود الصهاينة.
وزمان اليوم غير زمان الأمس في كل شيء على الإطلاق ... وما استرده ذات يوم صلاح الدين الأيوبي بالسيف والخيل والمنجنيق ، لايسترد اليوم بمثل ذلك ولو تواجد ألف من أمثال صلاح الدين ... لقد تغير الزمن وتغير معه جدل الصراع وأدواته ... وبقينا نحن كما كنا بأفكارنا البالية الطنانة الرنانة التي ما عادت تسمن ولاتغني من جوع ... تطور كل شيء حولنا إلا عقولنا ونظرتنا للحياة ، فقد بقيت ترواح مكانها دونما أدنى تغيير أو تطوير ... أليوم ياصديقي نحن نعيش عصر الذكاء والمكر والخبث والدهاء . ونصيبك من هذا الزمن بقدر نصيبك من تلك الصفات ، وتلك  هي الحقيقة شئنا ذلك أم أبينا ، اعترفنا بها أم لم نعترف .. الصراع اليوم ما عاد صراع سيف لسيف ولابندقية لبندقية ، بل هو صراع شامل للإرادات ، يدخل في كل مجال من مجالات الحياة ... إن القضية الفلسطينية قضية سياسية وإنسانية وحضارية تقاطعت فيها كل ألوان الطيف السياسي والإنساني والحضاري ، ولكي نكون في مستوى القضية وتعقيداتها ، يجب أن تكون لدينا القدرة على النظر إليها من كل الزوايا لنتمكن من رؤية ألوان الطيف المختلفة بكل تجل ووضوح ... ويجب علينا أن نعلم علم اليقين أن فلسطين لن تستردها البندقية ولاقوافل الشهداء لوحدها ، ولا الكلمة المناضلة ، و لا أشكال النضال السياسي المختلفة لوحدها ، بل هي بحاجة إلى كل صورة وكل شكل من أشكال وصور الكفاح والنضال ... وصراعنا مع الصهاينة المحتلين صراع موت أو حياة ... صراع وجود يصدق فيه قول شكسبير "نكون أو لانكون" ... ولو اقتصر صراعنا معهم على البندقية والتضحيات الجسدية ، لما تمكنا ، في ظل المعطيات العربية والدولية الرديئة التي تعلمها ، ولعدم التكافؤ في ميزان القوى ، تحقيق شيء مما نصبو إليه.
والقضية – كما قلت لي ذاتك – ليست في كيف نموت ، فلم يكن الموت في يوم من الأيام غاية لأي مناضل أو قضية ، كما أنه ما أسهل أن نموت وما أبهج واسعد ذلك للعدو ، ولكن القضية هي في كيف نعيش وكيف نصنع الحياة . وصنع الحياة ، والحياة الحرة والكريمة بشكل أخص ، يحتاج ، في الزمن الذي نعيش فيه ، إلى رؤى ثاقبة وتفكير عميق يلف العقل بزاوية (360) درجة ... نحن ياصديقي لو تعمقنا في رؤية الصراع العربي الإسرائيلي ، لو تحرينا بصدق وأمانة أسباب ضياع فلسطين والخسران العربي ، لوجدنا أن هزيمتنا كانت هزيمة علم وعقل ورؤى في المقام الأول ... ولأن الحديد لايفله إلا الحديد ، لايهزم العلم إلاّ العلم ولا العقل إلاّ العقل ولا الرؤى غير الرؤى الأكثر نضجاً وعمقاً.
ولاتجادلني كثيراً في ذلك ، ويكفي أن تنظر إلى المشروع الصهيوني – رغم ضآلة أعداده البشرية بالمقارنة إلى ملايين العرب – أن تنظر إليه كيف صار سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعلمياً ، وفي المقابل كيف صار المشروع العربي الحضاري – إن كان لهم أصلاً ثمة مشروع حضاري – بعد نصف قرن من الصراع.
سترى بلا شك أن لاوجه للمقارنة .. لماذا ؟! للأسباب التي ذكرت ... لقد هزمتنا إسرائيل في ساحات العلم والعقل والتفكير قبل أن تهزمنا في ساحات الوغى والحروب ... وعليه كان لزاما علينا أن نبدأ الصراع من هنا ... من تلك المجالات التي جاءتنا منها الهزيمة والانكسار ، أن نحارب العدو بنفس الأساليب التي حاربنا بها أن يكون لنا في كل جبهة وجود ونضال ... ولأن قضيتنا سياسية، والسياسة فن الممكن ، ينبغي علينا استغلال كل ما هو متاح وممكن لتحقيق أهدافنا أو لتقريبنا من تحقيق تلك الأهداف.
فاسترقت منه لحظة صمت وقلت له : أنت إذن ميكافيلي التفكير فالغاية عندك تبرر الوسيلة.
قال لي في إصرار عجيب : أجل ! أنا ميكافيلي التفكير .. ومن أجل استرداد الحق والحرية ، تلك الغايات السامية النبيلة ، أنا على استعداد للاستعانة بالشيطان، واكتراع العلقم ، والعيش في الجحيم ، وارتداء ألف قناع وقناع في اليوم وأن أكون كالحرباء لايعرف لي لون معين ... ولايهمني كثيرا ما قيل عني أو يقال ، طالما أنني أعرف من أكون وأعرف طبيعة وأبعاد ما أفعل ، شأني في ذلك شأن إبراهام لانكولن محرر العبيد في أمريكا !! ... وليكن في علمك أن كل ما يحدث في أرضنا السليبة أو المحررة من صور النضال ،  أو الفداء والكفاح لدي به علم ، ولي فيه يد من قريب أو بعيد ... والوعود التي أطلقتها للأعداء – كما تقول – لم تكن منى سوى قول على قول وكلام في كلام ، أما واقع الحال فانظر إليه ينبئك عن فعل الرجال … وقد أعمد أحياناً للتضحية بطرف من الأطراف وبتره في سبيل الاحتفاظ بسلامة الرأس وباقي الجسد .. تلك هي قناعاتنا وخياراتنا الاستراتيجية التي ليس لنا عنها مناص أو محيص … القناعات المبنية على ضرورة أن يكون لنا كشعب وكثورة وجود مؤثر وحضور فاعل وورقة ضاغطة إن لم تكون رابحة في كل محفل من المحافل وكل ركن أو زاوية أو ناحية من نواحي الحياة وساحات الصراع.
قلت له : أبا عمار لقد أحسنت الدفاع عن نفسك ونهجك السياسي ، ولكن خلاصة ما قلته لي تذكرني بلعبة الشطرنج ، فهل أنت لاعب شطرنج ماهر ؟
قال : اللعب أعرفه والمهارة سأكتسبها مع الأيام.
قلت له : مهما بلغت مهارتك في اللعب ، خوفي عليك من كاسباروف يا أباعمار
قال لي وهو يغادرني : سأتعلم أسرار انتصار كاسباروف ، ومن بعد ذلك
ستبدي لك الأيام ما كنتَ جاهلاً


ويأتيك بالأخبار من لم تزوَّد

قلت له وهو يتوارى عني وراء الأفق : أجل بيني وبينك الأيام يا أبا عمار، وأتمنى من كل قلبي أن أخسر أنا الرهان وتكسبه أنت .

11/ 11/ 2001 م                               زهران بن زاهر الصارمي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق