إلى طلائعنا الأدبية الواعدة

تحية إجلال وتقدير لكم وبعد ...

بداية ,أنا واحد من يستهويهم تتبع الإبداعات الأدبية الواعدة على الساحة الوطنية , وواحد ممن يحب ويتابع ـ كلما سنحت له الفرصة ـ قراءة ما تكتبون , وأرى فيكم جميعا وفي كتاباتكم إرهاصات غد أسمى وشعاع فجر باسم مفعم بالأمل .

وقد كان لي أكثر من وقفة تأمل وإعجاب مع هذا المقال أو ذاك لأي منكم فأعجبني كثيرا ـ مثلا ـ مقال الأخت منى البيماني " النهاية " فقد كانت فيه رائعة الفكر والأسلوب إلى الحد الذي جعلني أحتفظ ببعض عباراته البليغة وأدونها في دفتري الذي ألخص فيه شذرات مما أقرأ أو أسمع . كما كان لي مع الأخت شريفة التوبي أكثر من مساجلة أو مداخلة , إحداها كانت حول مقالها " الزواج المؤطر " والأخرى حول مقالها " بين مثالية الحلم وحقيقة الواقع " حيث حملت مداخلتي لها عنوان " لولا الأحلام الإنسانية ما كانت الحضارة البشرية " والأخ المهندس علي عبد الله الزويدي أعجبني من بين ما كتبه سلسلة مقالاته الصريحة والجريئة حول " الآفات الاجتماعية " وكدت مرة أن أعقب على مقال له عن التعمين , ولكن الظروف حالت دون إكمالي لمسودة ذلك التعقيب .

غير أني لاحظت في مقالاتهم مؤخرا كثرة التشكي والتوجع والأنين من العدو وراء السراب , وتذمرهم وضيقهم بصمت القبور حول ما يكتبونه من قبل " القراء الأعزاء " .

وكانت البداية عند الأخت منى البيماني , حين كتبت مقالا تعلن فيه عن " إفلاسها " ثم تلتها على نفس النهج الأخت شريفة التوبي , ثم امتدت العدوى إلى الأخ المهندس علي عبد الله الزويدي الذي ذهب إلى حد إعلانه اعتزال الكتابة حتى يعرب القراء عن رأيهم فيما يكتب .

ولقد كانت التساؤلات التي ولدها الإحباط لديهم واحدة وإن تعددت صور العبارات المطروحة فيها , وتتلخص تلك التساؤلات الحائرة في الجمل الاستفهامية التالية :-

·       ترى هل ثمة من يقرأ ما يكتبونه ؟

·       وإن كان نعم , فما رأيه فيما يقرأ ؟

·       أين كان الصواب حليفهم فيما يكتبون وأين جانبهم ؟

·       أين مواطن الإبداع عندهم , وأين كانت لهم ـ إن وجدت ـ كبوة أو هفوة ؟

·       وبالتالي ما هي المحصلة , هل وجوب الاستمرار في الكتابة , أم وجوب التوقف عنها ؟

والواقع أن تلك الأسئلة منطقية تماما وموضوعية أيضا . وهي من حق أي كاتب أن يطرحها وأن يلقى الجواب عليها , بل وأن تلك الأسئلة تعد من متلازمة الكتابة والإبداع والهاجس الذي يقض مضجع الكتاب والمبدعين أينما كانوا وعلى مختلف ألوانهم والطبقات . فطبيعي أن يطمح كل باذر بذرا أن يرى بذره ينمو ويترعرع ثم يراه يزهر ويثمر  , وكم يغبطه لو رأى الأرض اليباب تستحيل ببذره إلى مروج سندسية الاخضرار .

وطبيعي جدا أيضا أن يتوق كل من يرفع عقيرته بالغناء والبكاء والأنين , أن يتوق لسماع صدى غنائه أوبكائه وأنينه في آذان الآخرين .

ومهما كان الاختلاف أو تعدد الرؤية حول جواب ذلك السؤال العتيد المتشعب الأطراف ـ الذي يستحق أن نفرد له مقالا مستقلا بذاته ـ إلا وهو :-

( ماذا نكتب ؟ ولماذا نكتب ؟ ولمن نكتب ؟) أقول مهما كان الاختلاف وتعدد الرؤية حوله , نظل نلتقي جميعا حول حقيقة واحدة لا غبار عليها , ألا وهي أن الإبداع نار تحتاج لمن يذكي شعلتها , وإلا خبت وانطفأت , والإبداع ينابيع دفاقة تحتاج لمن يتعهد مجراها بإزالة الشوائب من أمامها, وإلا اضمحلت ونضبت . فلا لوم عليهم ولا تثريب إذن , من إفصاحهم عن رغبتهم في معرفة موقعهم من الإعراب لدى القارئ , فالدرر واللآلئ , مع ذاتها , إن هي إلا حجر لا أكثر  , ولكنها و مع الإنسان وعلى جيد الغيد الحسان , هي الأحجار الكريمة والنفيسة التي تضفي على صاحبها عزة المال ومنعته وبهاء الجمال وروعته , وهكذا هو الحال مع الإبداع , أيا كان , إن هو إلا حبر على ورق مع صاحبه فحسب , ولكنه , مع الآخرين , نعمة ساحرة تشنف الآذان وتحرك الوجدان , أو شعله هادرة تحرق ما في النفس من أدران , أو هو نور ساطع يبدد الظلمات , أو سيف قاطع يصنع في الخصم المعجزات , فرب قول أفعل من صول كما قالت العرب .

على تلك التساؤلات , في الجانب الآخر , على بداهتها تقلب علينا المواجع , وتضع الأصبع  فوق الجراح . ولا أريد أن أغرق في التشاؤم فأردد ما قاله عنا ذات يوم موشي دايان وزير الدفاع الإسرائيلي إبان حرب حزيران 67 , حين سخر بالإنسان العربي أو استهزأ به في معرض رده على عدم خشيته من إمكانية أن يستفيد العرب من كتابه ( أسرار حرب حزيران ) واصفا العرب بأنهم " قوم لا يقرؤون وإن قرؤوا لا يفهمون وإن فهموا لا يستفيدون .." فاسكتوا أيها المتحمحمون .. لكم النصف مما يعطون , إنهم ... إلى آخر الحكاية التي يعرفها أهل الظرف والظرفاء !!.

أجل ! لا أريد أن أردد تلك المقولة اللئيمة والأليمة , كما أني , في الوقت ذاته , لا أحب أن أدفن رأسي في الرمال كالنعامة , وأرى بأنه يتوجب الاعتراف بان هناك فعلا , وإلى حد كبير , أزمة قراء وقراءة , وبالتالي أزمة مثقفين , أما أسباب تلك الأزمة , فذاك موضوع آخر كثيرا ما تناولته أقلام الكتاب , وقد أدلو بدلوي فيه ذات يوم , فهو موضوع عميق وجاد يمثل قضية العصر الذي نحن فيه ,فهو يستحق أن يشبع تحليلا وجدالا وكتابة , علنا من بعد كل هذا المخض والمخاض أن نحصل على شيء من الزبدة النافعة لجماجمنا الواهنة , أو نشهد ميلاد طفل نشد به عظم ظهرنا الكسير .

وبناءا عليه فليس على طلائعنا الأدبية سوى التحلي بصفة الصبر والجلاد وطول النفس وأن يوطنوا أنفسهم لتحمل الإحباط الناجم عن إحساسهم باللامبالاة بهم وعدم التواصل أو التفاعل معهم من قبل القراء , فلن يحصلوا على الاعتراف منهم بتلك السهولة ـ قل عدد أولائك القراء أم كثر ـ ذلك حتى ولو أتت تلك الطلائع بما لم تأت به الأوائل من قبل فكرا وإبداعا , ! فغالبا ما يكون اكتشاف المواهب , عندنا, والقدرات وحتى المعجزات , متأخرا جدا جدا وبعد فوات الأوان , وما أصدق من قال في ذلك " الأديب في الشرق يموت حيا ويحيا ميتا " فلا بد للأديب عندنا إذن , أن يرتضي بالموت في حياته , عله يلقى الحياة في مماته , فذلك هو قدر الأديب في بلادنا العربية , وذلك هو دربه الشائك الموحل !.

..................................................................

وعود على بدء , قد تتساءلون في نهاية كل هذه التداعيات والمداخلات ( المهم أين نحن منك يا هذا , أو ما موقع إعرابنا عندك ؟! وأقول لكم باختصار شديد أنتم عندي في موقع الرفع فاعلا وخبرا , إن جاز التعبير ويجب أن تستمروا في عناد وعزم لا يلين على مواصلة الكتابة والإبداع , فذاك هو ما يميزكم عمن حولكم من البشر الآخرين .

أما الرأي في كتاباتكم من حيث البلاغة والأسلوب فربما أكون أقصر باعا من تناولها ومحاكمتها أو نقدها وفقا لمبادئ وأسس النقد الأدبي المتعارف عليها . فأنا لست بناقد أدبي , ولا أعتقد أني أطمح بان أكونه ! غير أن لي , كهاو للقراءة والكتابة , ملاحظات أو بالأحرى مداخلات حول موضوع الكتابة والكتاب بوجه عام , تتمثل في النقاط التالية :-

·       الكاتب ونوع العبارة والجملة التي يستخدمها :-

حول هذه النقطة لا أرى ثمة ما يعيب الكاتب في نوع العبارة التي يستخدمها في التعبير عن بنات أفكاره أو ما يعتمل في صدره وعقله , ولا يعيبه أن يقول ـ مثلا ـ ( أحب رائحة الزهرة أو أحب الزهرة رائحة , أو أن يقول أحب الزهرة رائحتها ) فكلها في نهاية التحليل صور مختلفة  لمضمون واحد والناس فيما يعشقون مذاهب , فطه حسين والعقاد والمازني والمنفلوطي وخالد محمد خالد , كان لكل منهم أسلوبه المعروف به , ولكنهم كلهم كتب لهم الخلود , وكلهم قرأ الناس لهم , وتفاعلوا معهم في كتاباتهم وانفعلوا بهم , وكانوا وما زالوا أنجما لامعة في سماء الإبداع الأدبي الرفيع غير أنه ـ ومع الأسف الشديد ـ لقلة قراءاتنا ومطالعاتنا الأدبية وبالتالي لضحالة معارفنا , لاسيما اللغوية منها , وتدني المستوى الثقافي لدينا , ألفنا التعابير والجمل الكلاسيكية السائدة في حياتنا اليومية , إلى الحد الذي بتنا معه نستهجن أو لا نتذوق أي تعبير أو عبارة خارجة عن مألوف العادة الدارجة , بل وقد نخالها خطأ أو نعتبرها تهريفا وتحريفا للغة . وأنا ذاتي مثلا , وقعت في هذه الإشكالية حين كتبت , في هذه الصفحة عينها مقالي السالف الذكر " لولا الأحلام الإنسانية ما كانت الحضارة البشرية " فإذا به كائنا من يكون ذاك الذي أمسك بسيف القلم وظن أنه أوتي جوامع الكلم , فصال وجال في سطور المقال , وضرب بجمله وعباراته ذات اليمين وذات الشمال , فلم يعجبه قولنا مثلا , ( ألا نرهق أنفسنا تفكيرا وحسابا دقيقا لمجريات الأمور ) , واستبدله بقوله ( ألا نرهق أنفسنا في التفكير والحساب الدقيق لمجريات الأمور ) , واستهجن قولنا ( الشمس هي الشمس في شروقها والغروب , واليوم هو اليوم في تعاقب ليله والنهار , والأرض هي الأرض بجبالها وسهولها والصحاري ) واستبدله بقوله ( الشمس هي الشمس في شروقها وغروبها , واليوم هو اليوم في تعاقب ليله ونهاره والأرض هي الأرض بجبالها وسهولها وصحاريها ) , وأنا أترك لكم وللقراء  الآخرين الحكم على أي القولين أجمل وأجزل !

والأدهى من ذلك والأنكى أن كلمة ( التطوير) , مصدر الفعل المتعدي , استبدله بكلمة ( التطور) مصدر الفعل اللازم , في سياق جملة ( أما أحلام اليقظة فهي ليست سوى التعبير المرادف لما يعتلج في صدر الإنسان وعقله من الأماني والآمال والطموحات التي يرغب في تحقيقها في حياته تغييرا أو " تطويرا " أو إضافة ) .

وكم أتمنى أن يكون ذلك الاستبدال المشوه جاء كغلطة مطبعية , لا كفعل مقصود من قبل الأستاذ اللغوي بالجريدة , لأن المصيبة عندها ستكون أعظم لو كان الأمر مقصودا .!!

استدراك هام :- على أني حول هذا الموضوع , وإنصافا مني لهذه الجريد الغراء أقول , وبكل الشكر والتقدير , أن هناك من يبن العاملين في أروقة هذه الجريدة , عقولا أدبية فذة استدركت المسخ الذي حدث في نشر المقال لأول مرة والتشوهات التي لحقت به فسارعت إلى نشره كما هو , مرة أخرى , على ثلاث حلقات متتالية ـ وإن ظهرت فيه بعض جراح مقص الرقيب العتيد ـ فلها مني جزيل الشكر وخالص الامتنان . والحق أنه لولا ذلك الاستدراك لما عدت للكتابة في هذه الصفحة , فليس أقبح للكاتب ولا آلم من أن تمتد لإبداعه الرصين يد العبث المهين , كما يقبح أن يعلو نعاب الغراب ونواح البوح على صداح البلبل أو هديل الحمام.

........................................................................

طول المقالة:- وطول المقالة هو الآخر لا أرى فيه ضررا ولا ضرارا بالكاتب رغم المقولة والأثر الشائع " خير الكلام ما قل ودل " فهي مقولة  , في رأيي , لا يرددها أو بالأحرى لا يعممها إلا قصار النظر , ومن ليست لهم أصلا رغبة ولا رابطة أو اهتمام بالقراءة , فليس كل الموضوعات الأدبية والإبداعية يجوز لها الاختزال أو الاختصار , بل وإن ابتسار بعض الأفكار , يجعل منها , في كثير من الأحيان , أفكارا فجة هشة وركيكة تعوزها الحجة , وينقصها المنطق والدليل المقنع , فالقرآن الكريم وهو القول الذي ما بعده قول , فيه سورة الكوثر , وفيه سورة البقرة , وأين نحن من " أحاديث الأربعاء " , حول الأدب الجاهلي , لطه حسين , ومن مساجلات العقاد والمازني وجماعة " أبوللو " وأين نحن من مقالات  " بصراحة " المطولة لمحمد حسنين هيكل بصحيفة الأهرام القاهرية  ؟! أكان حديث كل هؤلاء غثاءا أجوفاً أو هراء في هراء ؟!. أما كان لهم قراء يقرؤون لهم ؟!, بل كان لهم قراء مشغوفون بهم , يتلقفون مقالاتهم فور صدورها ويلتهمونها التهاما , وينتظرون في شوق لإصدارها التالي . فلتبدعوا إذن بلا حدود أو قيود , ولتنطلق عقولكم محلقة بخيالها الجامح الشموص إلى آفاق الفكر الرحبة , ولتعانق أرواحكم الشمس والأنجم في سماواتها العلية , ومسافاتها البعيدة , فعندها , وعندها فقط , يكون لدينا إبداع رفيع ومبدعون نعتد بهم ونفخر , وفي النهاية , مهما كان مصير هذا المقال أو ذاك , ومهما كان حظه أو نصيبه من القراءة والقراء , فلن يصح ولن يبقى سوى الصحيح ( فأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض وأما الزبد فيذهب جفاء)

بين انتقائية الفكر والالتزام بالكتابة الأسبوعية في الجريدة :-

أنا شخصيا لست أناصر أن يكون لي عمود ثابت في صحيفة ما , إلا أن أكون متفرغا للكتابة أو محترفا لها , أما الرقص على الحبال فمصيره الحتمي التردي والسقوط , وعلى رأي إحسان عبد القدوس " لا يمكن أن أفكر وأنا أرقص " , أن يكون لي عمود ثابت يرتجى مني أن أملأه كل أسبوع وأنا , مع الحياة في زمن اللهاث , كغصن في مهب الريح يتقاذف زورق فكري طوفان بحر الزمان , لا البصلة التي شتت فكر الإمام الشافعي ذات يوم فقال عنها : من شغلت فكره بصلة , لم يقو عقله على حل مسألة ,!!, أن يكون لي ذلك العمود وأنا على تلك الصورة , هو أن أكتب فيه أي شيء يخطر على البال , غثا كان أم سمينا , وكيفما اتفق , ركيكا كان أو رصينا فالمهم عندي لحظتها هو تأدية الواجب بملء الفراغ المتروك لي بتلك الصحيفة .لا الكتابة التي يمليها علي الوحي والإلهام , أو المعانة والآلام , وهو أمر بالتأكيد سيقودني في نهاية المطاف إلى سطحية التفكير والابتذال والإسفاف في القول , لأن وحي الكتابة وإلهامها , ظاهرة يعروها المد و الجزر , لدى كل الكتاب مهما عظم شأنهم أو صغر , فقد تأتي على الكاتب أيام , أو حتى شهور عجاف يعزف فيها عقله عن الإتيان بأي لكمة أو فكرة , وإني لأعتقد جازما بأن هذه الإشكالية هي مصدر قلقكم وإحساسكم بغيض فيض الخاطر لديكم , ويجعلكم من ثم , في حيص بيص بين ضرورة وفائكم بالعهد الذي قطعتموه على أنفسكم للجريدة , وبين الشلل الذهني الذي تعانون منه أحيانا جراء هروب الفكر وشتات العقل .

على أن الشيء الذي ينبغي وضعه في الاعتبار دائما وأبدا , هو أنه لا يؤخذ على الكاتب حجم ما يكتبه , قدر ما يؤخذ عليه نوع ما يكتب . كما أنه لا يعيب الكاتب أن يطبخ فكره على نار هادئة ليقدم لنا من بعد ذلك وجبة فكرية دسمة , شهية وغنية بعناصرها الغذائية , ولا يضيره قطعا أن يعيد تهذيب وتشذيب ما يكتبه تنقيحا وتصحيحا وصياغة , حتى يؤتي لنا بسبيكة الذهب الخالص ثمنا ولمعانا , فزهير بن أبي سلمى , لقب بصاحب الحوليات , لأنه كان يقول في العام قصيدة واحدة , يظل يغير فيها ويبدل , ويعيد , ويحذف منها ويزيد , طوال العام حتى يلقى بها سوق عكاظ في العام القادم ,ولقد أتى بدور القول الخالد الذي نال به إعجاب الفاروق عمر بن الخطاب فقال عنه " أشعر الشعراء من قال :- من , ومن , ومن " إشارة إلى تلك الأبيات التي بدأت بـ " من " في معلقته العصماء ( أمن أم أوفي دمنة لم تكلمي ) ومونتسيكيو اعتكف عشرين عاما ليكتب ( روح القوانين ) , وقد اشتهر على تولستوي صاحب رائعة ( الحرب والسلام )  بقسوته على نفسه في تحري الدقة وقمة الإبداع لإعادته لما يكتب أربع مرات قبل إقدامه على نشره .

ذاك هو الحال الذي ينبغي أن يكون عليه كل من يتوخى الإجادة في الكتابة أو يبتغي الإبداع الخالد , إلا أن يكون ذلك النفر عبقريا ممن ينام ملئ جفونه عن شواردها , وما أقل أولئك العباقرة في هذا الزمن ـ الملهاة العصيب .

الغاية من الكتابة:-    

أما عن الغاية من الكتابة , فلا ينبغي , في رأيي , أن تكون الكتابة مجرد إزجاء لوقت الفراغ , إن الكتابة وحي وإلهام لا نتحكم فيه بل يتحكم فينا , والكتابة عشق واشتياق للرؤى التي نلقى فيها أمانينا , والكتابة عذاب عذب , واحتراق حلو , وانعتاق تسمو به الأرواح وتحرر من نسيج العنكبوت وأصفاد الزمن , وبالكتابة نعيد اكتشاف أنفسنا ومعرفة ذواتها وسبر أغوارها السحيقة اللامرتادة والمجهولة . أجل ! الكتابة كل ذلك , ولكنها قبل ذلك , وفوق كل ذلك أيضا , الكتابة رسالة سامية نبيلة , فيجب أن يكون الكاتب عند مستواها , مستوى الرسالة مسؤولية وأمانة , فالكتاب في أي زمان كانوا وأي مكان هم في نهاية التحليل من يرسم ويشكل الخلفية الثقافية والفكرية لشعوب بلدانهم , وهم من بيدهم صحوة الضمير أو موته ومن بيدهم بالتالي وقوف الشعوب على أقدامها شامخة كالطود أو نومها على الأرصفة في انسحاق وانكسار وخنوع , فهم بهذا رواد كل نهضة وتقدم في أي بلد من البلدان .

فلتكونوا , إذا , رواد نهضتنا المباركة التي يشهدها هذا البلد العزيز في ظل هذا العهد الزاهر الميمون , وليسدد الله خطاكم لما فيه الخير وصلاح هذا الوطن وأبنائه , ولا يضرنكم شنآن قوم في نفوسهم مرض فزادهم الله مرضا فأنتم الأعلون عنهم , وليكن شعاركم وشعار كل كاتب أو مبدع أصيل , هو تلك المقولة الرائعة ( لجان جوريس ) القائلة " إن الوفاء لبيت الأجداد لا يعني أن نحتفظ بالرماد بل أن نتناقل الشعلة " !!.

زهران بن زاهر الصارمي

19 /12/1998  ـ إزكي / إمطي