كتاب " الأنانية
أخلاق العظماء"
ونهاية الأخلاق
مقدمة
:
كتاب
"الأنانية أخلاق العظماء "
للدكتور سعد صلال العراقي ،كتاب علمي في طرحه وشرحه ، سيكولوجي انثروبولوجي
في موضوعاته ، فلسفي في أبعاده ، عميق ومثير للجدل إلى حد الصخب في آن معاً ...
وهو ، بكل صراحة وأمانة ، كان واحداً من
الكتب النادرة التي عصفت بعقلي ، وأثارت فيه شجون ، أو بالأحرى جنون الكتابة
وزوابع الفكر الممض ، وكثيراً ما وجدتني ، وأنا أقرأه ، إما معارضاً له ، ناكراً
وساخطاً على ما جاء فيه من مقولات وأفكار ، وإما مؤيداً و مصفقاً له بحرارة ، لملامسته كبد الحقيقة في
أكثر من موضع.
وليس من نجاح ، لأي كاتب ، قدر هذا النجاح
الذي تحققه له كتاباته حين تصل بمستواها حد السيطرة والاستحواذ على عقل قارئها ،
فتحيله إلى مركب شراعي تتلاطمه أمواج البحر الغطمطم من كل جانب .
وكل من يقرأ ذلك
الكتاب سيكتشف دون كثير من العناء شخصية كاتبه القلقة الضجرة ، الديكارتية أحياناً
، الكانطية أحيانا أُخر ، الفرويدية حيناً ، الحنبلية حيناً آخر ... كما سيكتشف
مهنة كاتبه أيضاً ، فللطبيب المشرِّح الجراح حضور واضح في عملية
التشريح والتشليح المعروضة بين سطوره
عن دهاليز النفس البشرية.
وفي
نهاية الكتاب يتناهى لسمع قارئه أنين العراق الجريح ، وصراخ شعبه المكتوم ، من ثقل
الحصار على الصدور ، وذل الحاكم الجبار ، وما يلقاه هذا الشعب ، إزاء هذا
وذاك ، من صمت القبور ، ونسمع مثقفيه
يبرئون أنفسهم مما حدث (مع أن الله سبحانه يقول "(وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي
إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ). ويدفعون عنها تهمة الممالأة والتواطؤ
بالقول الذي جاء على لسان كاتبه "لم تختر الشعوب أبداً حرباً واحدةً في كل
مراحل التاريخ ، ولكنه سرطان هؤلاء الأفراد العدوانيين الذين يطالبون بالحرب لأنهم
يحبونها ، بغض النظر عن الأسباب، فهم مجرمون لايستحقون تحمل مسؤولية سواهم ... إن
أي داعية حرب غير دفاعية ، مجرم تاريخياً ، مهما كان لقبه أو منصبه ، وإن تاريخ
البشرية مليء بهؤلاء الخارجين على القانون ، لذلك يجب أن يتخذ الإنسان المعاصر
القرار النهائي بعدم السماح للاستمرار بهذه الجريمة "العملاقة".
غيبوبة
الوعي
واضحة جداً هي جذور ذلك التعبير ... وبينة
جلية هي الشغاف المتصاعد منها ذلك النكير ... ولكن هذا الأمر في الجانب الآخر يفرض
سؤالا عصياً على الواقع ، وهو أنه إذا كان هناك هذا التفكير والوعي النوعي لدى
الشعب العراقي. وبخاصة لدى فئاته المثقفة نحو الحياة إرادةً و إدارة ، فلماذا إذن
كان ما كان وحصل ما حصل ؟ أين غاب الوعي والإحساس بعظم المسؤولية الجسيمة لحظة
الحسم واتخاذ القرار ؟ لماذا تُرك الطاغية المجنون أو المجرم يمارس طغيانه وجنونه
أمام سمع وبصر العقلاء والحكماء النجباء من أبناء هذا الشعب ؟! لماذا تُرك يُمارس
فعلته الشنعاء وجريمته النكراءã
في حق الشعب العراقي المجيد ليرجع به القهقرى عشرات السنين عيشاً ورقياً وحضارة ،
وليغتال معه بالتالي ليس آمال شعب فحسب بل وأحلام أمة.
أم أن الأمر في نهاية التحليل هو كما قال
عنه جبران خليل جبران :
فلا تقولنَّ هذا عالم عَلَمٌ
فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها |
|
ولا
تقولنَّ ذاك السيد الوقرُ
صوتُ الرعاة ومن لم يمشِ يندثرُ |
أو
كما قال هو أيضاً :
خُلق
الناس عبيداً
فإذا ما هبَّ يوماً |
|
للذي
يأبى الخضوع
سائراً سار الجميع |
وإني لأرى الأمر كذلك ،كما رآه جبران ، في
حاضر هذا الزمان ، ولكن السؤال الذي يبقى حائراً يبحث عن جواب هو : إلى متى تبقى
شعوبنا العربية قطعاناً للرعاة وعبيداً
للذي يأبى الخضوع ؟ وهلا سنشهد اليوم الذي تصل فيه هذه الشعوب مستوى الوعي النوعي
الرصين ، بما لها وما عليها نحو العيش
والحياة الحرة الكريمة ، حداً تقول فيه لحكامها النائمين في العسل : "كفى هذه المهزلة التي نعيش فيها ؛ فإما
أن تتغيروا وتواكبوا ركب الحضارة والزمن ، وإما أن يجرفكم تيار التغيير الهادر
، القادم من شآبيب أحاسيس هذا الشعب
المنطحن".
الكتاب
وحديث النهايات
وعود على بدء أقول: إن هذا الكتاب مستفز ،
يقدح في قارئه شرار الفكر ويضرم النار في هشيم المشاعر .. يقلب على الناس المواجع
، ويوقظ فيهم النائم الهاجع ... يوغر الصدور ، ويغرق النفوس المطمئنة في بحور الشك
والوساوس والظنون.
وأول ما استفزني في هذا الكتاب عنوانه ،
المثير العجيب الغريب المخالف لكل ما هو مألوف متعارف عليه لدى كرام الخلق من
الأعراف والأخلاق والقيم، وهو عنوان يذكرني فيما يذكرني به "حديث
النهايات" الذي كثر فيه القول والخطاب في الفترة الأخيرة بين الأدباء والكتاب
في غربهم والشرق.
فمن "هيتنغتون" ، و "نهاية
الديمقراطية" ، إلى "فوكوياما"
و"نهاية التاريخ "، إلى "ميشال فوكو" و"نهاية
الجغرافيا" إلى "علي حرب" ، و"نهاية الدور النضالي
للمثقف"، إلى الدكتور/ "سعد
صلال" و"نهاية الأخلاق"، إلى "عبدالرحمن منيف" ورواياته
"النهايات" التي كتبها في سبعينات القرن العشرين.
ما هذه الغفلة أو
بالأحرى "الهلوسة" العقلية التي حلت بالمثقفين الغربيين والشرقيين على
السواء ؟ من أين جاءتهم هذه القناعات بواقع أو مصير النهايات ؟ أهو الإحساس الفطري
باقتراب أو دنو النهاية الكبرى الشاملة للحياة ؟ أم هو الشعور الملازم للمثقفين
على اختلاف مناهلهم ومشاربهم وعصورهم بالاستلاب والاغتراب والعزلة والهامشية ؟ أم
هو الإصابة بالـmyopia أو أقصر البصر الذي أدى بهم إلى عدم القدرة على رؤية ما وراء
الصورة المتبدية للعيان ، إذ أنه في حقيقة الأمر ليس هناك شيء إسمه
"النهاية" ، فهذه كلمة نقولها مجازاً لوصف المراحل الإنتقالية لأي شيء
مادي أو معنوي في هذه الحياة .. فما النهايات التي نراها أو نعبر عنها عن هذا
الأمر أو ذاك ، في آخر التحليل ، سوى مقدمات لحالة أو لوضع جديد ، يعيش لحظات
مخاضه أو ميلاده العسير القادم من رحم الوضع أو الحالة السابقة، فلو كان كل شيء
"ينتهي" ، إذن ، لما كان هناك اليوم وجود لشيء على الإطلاق . فالحياة في
حقيقتها حلقات حلزونية كل منها متصل بما قبلها وما يليها من الحلقات المتصاعدة
تصاعداً أزلياً لا نهاية له .
ومهما يكن من أمر هذه الإشكالية ، فإن المتمعن
في أطروحات أولئك الكتاب لن يعسر عليه رؤية الفرق الجوهري بين معنى وجذور
"النهاية" لدى مثقفي الغرب ، ومعنى وجذور النهاية لدى المثقفين العرب.
فنهايات
مثقفي الغرب جاءت بمعنى بلوغ القمة والكمال ، فانطلقت من شعورهم بالـ Supreme
السيادة والتفوق إلى حد مخالطة عقولهم الـ paranoiaأو
جنون العظمة لما حققته ووصلت إليه حضارتهم الغربية من قمة في النظم الديموقراطية
ما عليها من مزيد ، عند "هيتنغتون" ؛ ومن ضربة قاضية وانتصار ساحق
للرأسمالية على الاشتراكية بلغت فيه حدود الخلود الأبدي لنظامها السياسي
والاقتصادي ، عند "فوكوياما". ومن عظمة الإبداع الغربي في وسائل النقل
والاتصال التي حولت المعمورة إلى مجرد قرية صغيرة ، ملغية الحدود والمسافات بين
القارات ، فصارت الكرة الأرضية ، بكل ما فيها ومن عليها ملك يمينهم وطوع أمرهم
والبنان ، عند "ميشال فوكو "و "بول فيربليو".
أما مثقفونا العرب من أمثال علي حرب في
كتابه ، "أوهام النخبة أو نقد المثقف" ، والدكتور/ سعد صلال في كتابه بـ
"الأنانية أخلاق العظماء" فجاءت نهاياتهم بمعنى بلوغ الحضيض المؤذن
بالزوال. فانطلقت نهاياتهم من معاناتهم المريرة وإحساسهم الساحق الدفين بالدونية
والعبثية والانكسار والعدمية التي تعانيها أمتهم العربية إلى حد مخالطة عقولهم ألـ
phobia أو جنون الخوف والشيزوفيرنيا أو انفصام الشخصية . فعلي حرب ، يرى
نهاية المثقف ودوره الطليعي والنضالي ، ويدعو إلى تغيير علاقته "بمهنته
الإبداعية ومهمته الرسولية "
"بعد كل هذا الهزال الوجودي والقصور المعرفي والسياسي الذي أدى إلى
هذا السقوط الذريع للمشاريع الإنسانية الكبرى، أي بعد الفشل في مهمة قيادة المجتمع
نحو عالم أقل استلاباً أو أكثر تقدماً وعدالة ".
ويخلص بالتالي إلى قناعته بأفضلية اقتصار
دور المثقف على طرح الأسئلة المستعصية عن
، لماذا ؟ وكيف ؟ وانكفائه على محاولة فهم الواقع ، لا العمل على تغييره ؛
معارضاً بذلك مقولة ماركس الشهيرة ، التي قالها بعد أن رأى استغراق المثقفين وأهل
الفكر في الجدل البيزنطي " حتى ابيضت شعور رؤوسهم ولم تنضج عقولهم " دون
أن يغيروا من واقع الأمر شيئاً فقال: "آن للفلاسفة أن ينتقلوا من الإنشغال
بتفسير العالم إلى العمل على تغييره". ونسي "علي حرب" لحظة إحساسه
بالخيبة المريرة والإحباط ، بأن التاريخ كل التاريخ ، هو في خاتمة المطاف ، من صنع
المثقف الطليعي والرسولي الحامل لهموم الإنسانية ومعاناتها بكل زمان وأي مكان ،
وسيبقى الأمر كذلك إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ... سيبقى هؤلاء المثقفون
الطليعيون الذين يحاولون فهم الواقع ويعملون على تغييره في آن معاً ، هم الشموع
والشعل المضيئة التي تنير الدروب للملايين السادرة في غياهب الظلم والخطوب . وحال
أمتنا العربية ، برغم حضيض المذلة والهوان الذي هي فيه الآن ، إلا أنها ليست بذلك السوء ، بل ولأنها بلغت
هذا الدرك الأسفل من الحضيض ، ليس لها من بعد ذلك إلا التسامي والنهوض.
فإذا تم أمر بدا نقصه
|
|
ترقب زوالاً إذا قيل تم
|
وإرهاصات
تململ المارد العربي بادية للعيان ، فمن أسامة بن لادن والمجاهدين العرب الأفغان ،
إلى الخطَّاب القائد الميداني للمجاهدين الشيشان ، إلى طلائع حزب الله وما فعلته
في إسرائيل بجنوب لبنان ، إلى "الجزيرة"
تلك القناة العربية الرائدة وصوتها
المناضل على لسان مثقفيها الأفذاذ "فيصل القاسم" ، "وسامي
حداد" ، "وأسعد طه" ، "ويسري فوده" ، "وأحمد
منصور" ، و"كوثر البشراوي" وغيرهم ... القناة التي قالت عنها
إسرائيل لشعبيتها الواسعة وتأثيرها الفعال في عرضها الأمين للرأي والرأي الآخر
المغمور ، "بأنها أخطر عليها من كل الجيوش العربية" ؟!! إلى قوافل
الشهداء والاستشهاديين المئات الآلاف في فلسطين ، وغيرها وغيرها هي خير دليل على
آثار النحت الذي مارسه المثقفون الطليعون (من عهد أبي ذر الغفاري وابن تيمية ،
مروراً بالفارابي وابن رشد ، إلى عهد الكواكبي وقاسم أمين وطه حسين وكل رواد
القومية العربية في صدر القرن العشرين وما تلاهم من المثقفين العرب اليساريين
والليبراليين البارزين) في وجدان الإنسان العربي وصياغة توجهاته المستقبلية نحو
آفاق المجد والحرية.
كل
كتاب يقرأ من عنوانه
والدكتور/ سعد صلال هو الآخر ، في إحباطاته
والتشاؤم، مثل سابقه ،علي حرب ، لم يجد ما
يصب عليه جام غضبه وزعاف خيبته سوى الكتابة عن
"الأنانية" ، ذلك السلوك الحيواني العفن ، ليرى فيها أخلاقاً
حرية بالعظماء ، جلَّ الله شأنهم ، الذين
لولا سموهم عن الأثرة ، وتحليهم بالإيثار
، لما بلغوا ، من أساسهم ، مرتبة العظمة والعظماء.
وكأني به ، أي بالدكتور/ سعد ، ينتفض
عليَّ محتجاً ، على تطاولي عليه وعنونتي
لكتابه بعنوان غير عنوانه ، فكتابه يحمل عنوان "الأنانية أخلاق العظماء"
لا "نهاية الأخلاق" ، وأنا هنا
، في الحقيقة ، أتحدث عن المعنى الضمني الذي يوحي به عنوان الكتابة لأي قارئ كان ،
فكل كتاب -كما يُقال- يُقرأ من عنوانه ، وأكثر من 75% من قراء اليوم ، لايتعدون في
قراءاتهم العناوين ورؤوس الأقلام.
والكلمة أية كلمة ، هي ملكنا من قبل نطقنا
بها أو كتابتنا إياها ، ولكنها ملك غيرنا من بعد ذلك ، يفسرها كيفما يشاء ، وكيفما
يوحيه له معناها الظاهر حسب هواه ومستواه في الفهم والإدراك. ومن الخطأ في رأيي أن نقول هنا ما قاله
المتنبي ذات يوم :
"عليَّ
صب المعاني في قوالبها وما
عليَّ إذا لم تفهم البقر"
لأن
الكاتب ، أي كاتب ، لا يكتب لنفسه ، بدليل نشره لما يكتب ، بل هو يكتب لغيره من
البشر لا للبقر ، ويأمل منهم الفهم والإدراك ، بل والمشاطرة أو حتى التبني لأفكاره
وآرائه المطروحة.
ولكي يحقق الكاتب هدف الوصول إلى ما
يتمناه من قرائه، عليه أن ينزل من أبراجه العاجية ، ويسير مع عامة الناس في
شوارعهم والأزقة ، يتبسط معهم في توصيل رسالته وأفكاره إليهم ، بمخاطبتهم باللغة
التي يفهمونها ، وبالخطاب الواضح المباشر الذي لا لبس فيه ولا تورية أو تعقيد .
لهذا كان أفضل الكُتَّاب هم أولئك الذين يمتلكون أعنَّة القول البليغ الواضح ،
ويمسكون بناصية "السهل الممتنع" . وعنوان ،"الأنانية أخلاق
العظماء" ، ينطوي على أكثر من مغالطة ، وأول تلك المغالطات هو أن
الأنانية ، بوصفها التورم في الأنا ،
والرغبة في الاستبداد والتفرد والجشع ، لم ولن تكون في يوم من الأيام أقنوماً من
أقانيم "الأخلاق".
فكلمة "الأخلاق" استقرت في وعي
ولا وعي الانسان منذ أن كان العقل والمنطق والضمير في هذا الوجود ، استقرت كوصف وصفة للمآثر والسلوكيات
الإنسانية السامية النبيلة والرفيعة ، لا كوصف أوصفة للمثالب والسلوكيات الحيوانية
أو البهيمية الساقطة الوضيعة ، فلا يجوز قطعاً أن نقرن الأنانية بالأخلاق، كما لا
يجوز ، استحالة ، اقتران الأرض بالسماء ولا الشر بالخير ، أو القبح بالجمال أو
الليل بالنهار.
كان بوسعه الحديث عن الأنانية في السلوك
والحياة البشرية تحت عنوان آخر "كطبائع الأنانية" ، مثلاً ، اقتباساً واقتداءاً بكتاب "طبائع
الاستبداد" الشهير لبعد الرحمن الكواكبي ، فثمة قاسم مشترك وخيط رفيع يربط
بين الكتابين ،كما يبدو لي ، في الشكل
والمضمون.
والمغالطة الأخرى في هذا العنوان هي محاولة لصق
تهمة الأنانية بالعظماء ، وهو أمر يحتاج منا إلى وقفة وتفنيد ، وأول ما ينبغي
تفنيده والوقوف عليه بوضوح هو معنى كلمة "العظماء" ، فمن هو العظيم بعد
الله، وأنبيائه أولاً؟ وهل كل قائد أو حاكم أو عالم أو حتى زعيم بعظيم ؟
مخطئ من يظن ذلك
إطلاقاً .
فما
كل من طلب المعالي نافذاً فيها ولا كل
الرجال فحولا
فما كل من تولى القيادة أو الحكم ، ولا كل
من تعلم أو تزعم صار عظيماً من العظماء ، فمنهم ، ما أن يتولى ويتوارى ، حتى
يتوارى معه أثره وذكره خيراً كان أم شراً ، ومن صفات العظيم الخلود. ومنهم من
يتوارى شخصه و لا ينتهي ذكره أو يمحي أثره ، لا جتراحه في حياته عملاً خالد الذكر
، فإن كان ذلك العمل شراً أو منكراً فما صاحبه سوى طاغية أو مجرم ، ولم ولن يحمل
الطغاة ولا المجرومون ، في يوم من
الأيام ، صفة الله العظيم . وإن كان ذلك
العمل ، مأثرة فذة ، فيها الخير والصلاح
للبشرية ، كان هو الإنسان العظيم ، الذي يستحق ، بعد الله وأنبيائه ، خلود الذكر والتبجيل ، فالعظمة شموخ وإباء وشمم
، والعظمة التزام بالمبادئ والقيم ، والعظمة نبل وسمو لا يدانيه الوخم.
فكيف لنا أن نوصم العظماء ، أصفياء
الأنبياء ، بوصمة الأنانية ، وهم أبعد ما يكونون عنها وعن سلوكها العفن كبعد الأرض
عن جو السماء.
الفرق
بين الأنانية وسلوك الفطرة
ودرءاً
لتهمة إلقاء القول على عواهنه أو سوق التهم بلا دليل ، أراني مضطراً أن أستعرض في
اختصار شديد بعض العبارات والأفكار التي حواها الكتاب ، والتي تبين بكل جلاء ووضوح
إلى أي مدى تمثل الشطب والتشويه المؤلم والمؤسف لكل المعالم الجمالية للمُثل
والقيم الأخلاقية النبيلة التي كانت ولم تزل نقطة الضوء الساطعة في ليل الحياة
البهيم ، وبراق الإنسانية نحو عوالم النيرفانا وشواطئها اللازوردية الخالدة
الجميلة. فمن بداية الكتاب حاول طبيبنا الأديب ، بكل ما أوتي من علم وحكمة ،
اقناعنا واثبات أن الأنانية هي المحرك الأولي والدافع الأصلي و الفطري لكل أشكال
السلوك البشري ، مستعيناً في ذلك بخبرته
،كطبيب ، في علم الفسيولوجيا ، حيث
رأى البرهان على فطرة الأنانية في الإنسان في أمرين هما :-
سلوك
الخلية التي يتركب منها جسد الكائنات الحية ، في الحفاظ على نفسها واستمرار بقائها
في الوجود.
وفي الهارمون الجنسي
بنوعيه ، الذكري البروجستروجين ، والأنثوي
الاستروجين ، الذي عزا إليه صنع كل أحداث التاريخ البشري.
" فالخلية كائن يمارس حياته وكأنه إنسان كامل ، تأخذ مالها
وتعطي ما عليها في دقة متناهية دون خوف أو أخلاق ، وبحكم التصاقها بسواها من
الخلايا فإنها تتبادل معها المنفعة ، وإذا اقتضى الأمر أن تصارع من أجل أن تأخذ
مالها فإنها تستخدم أية وسيلة لبلوغ ذلك ، وإن اقتضى الأمر سحقت كل ما يقف بطريقها
من الخلايا دون رحمة " .
" والذي صنع التاريخ هو هذا الهارمون
بنوعيه الأنثوي والذكري ، فمفتاح التمايز الاجتماعي بين الرجل والمرأة ، عالمياً
وتاريخياً هو هذا الهارمون ، فعندما يقل الهرمون الجنسي عند الإنسان تبدأ التبدلات
اللاحقة له ، والمرتبطة به بالظهور وعلى ثلاث مستويات هي : الفكر والسلوك والشكل
".
ربما يكون ما قاله الدكتور هنا صحيحاً
علمياً ،بالنسبة لفسلجة الخلية الحية
ولكننا مع ذلك لا يمكننا الركون إليه واعتباره مبرراً أو مسوغاً لإقرارنا
بالوجود الحتمي للأنانية ، ناهيك عن إجلالها أو تشجيعها في السلوك البشري ، لأن الأنانية
في محصلتها النهائية ظلم واستفراد ، أي استبداد الفرد بالمنافع والخيرات دون غيره
من الناس ، بل وعلى حسابهم أيضاً .. في حين أن الخلية والهارمون الجنسي هي قواسم
مشتركة لكل الكائنات الحية بما فيها الإنسان ، فسلوكها بالتالي وتأثيرها في جميع
الكائنات واحد ، وما اشترك الناس فيه ، على أساس من الفطرة والغريزة لا يُعد بأنانية
، لأنه، ببساطة شديدة ، يعد قاسم مشترك بينهم جميعاً ، يستوون في فعله وممارسته
اللاإرادية له ، غنيهم والفقير ، كبيرهم والصغير ، قويهم والضعيف، خيراً كان ذلك
أم شراً.
غلواء
الفكر الأناني
ويمضي الدكتور الأديب حاملاً معوله يهدم به
صروح الأخلاق والقيم المتعارف عليها فيرى : " أن التعاون – ذلك الذي أمرنا
الله سبحانه وتعالى بالتزامه على البر والتقوى ، ليس هدفا أخلاقياً بل وسيلة
أخلاقية ".
في حين أن الأمر سيان ، فليس هناك في
الأساس وجود لغاية مطلقة ولا لوسيلة مطلقة ، وإنما هما في تبادل مستمر للمواقع
والأدوار ، فما هو اليوم وسيلة كان بالأمس غاية ، وما هو اليوم غاية غداً سيغدو
وسيلة لتحقيق غاية أخرى، وهكذا دواليك إلى
مالا نهاية.
ويستطرد في هجومه وتحامله على الجنس
البشري ليرى " أن الإنسان يتعامل مع الجو المحيط به على أساس الأخذ والعطاء ،
وفق قاعدة "خذ حتى تعطي" وليس وفق قاعدة "أعط حتى تأخذ" ولا
حتى "خذ واعط" ويذهب إلى أبعد من ذلك ، فيشير إلى "أن هناك اتفاق
لصوصي بين جميع الأطراف ليكون العطاء لاحقاً والأخذ سابقاً. ويصل بنا في خاتمة
المطاف إلى عرض الخلاصة التي يراها في أن "الباطل أصيل والحق وكيل" وهو
أمر أول ما يدحضه قول الله سبحانه وتعالى (إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ) ، و
(أَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ
فِي الأرْضِ ) ، ذلك بالإضافة إلى استحالة تعميم مثل هذه الرؤية واقعاً وتطبيقاً ،إذ لا أخذ بلا عطاء ، إلا لدى مصاصي الدماء من
البشر . فقاعدة الحياة هي العطاء أولاً ثم الأخذ ... إداء الواجبات يأتي قبل نيل
الحقوق ، فلن يحصد الفرد من الثمر قبل أن يبذل في الأرض جهده وطاقته ، عزقاً
وبذراً ورياً ورعاية ، ولن ينجح الطالب قبل أن يكل طرفه من سهر الليالي وينحل جسمه
، ولن ينال العامل أجره إلا بعد أن يجف من جبينه عرقه ، ولن يأخذ من الأسواق أي
كان أيَّاً يريده ويهواه إلا بعد أن يدفع ثمنه مقدما.
إن العطاء في جوهره ، أصل الوجود ، ومنشأ
الخلق ، ومصدر Resource الإضافة والتموين الكوني ، والأخذ في حقيقته ، استهلاك Consumption واستغلال أو استخدام Utilization لرصيد هذا
التموين ، فإن انعدم العطاء أو بُني العطاء على الأخذ ، انعدم الأخذ لانعدام المصدر الذي يرفده
ويستمد منه وجوده وبقاءه ، فلولا العطاء لما كان الأخذ ولكن العكس غير صحيح ، رغم
وجود القاعدة الجدلية القائلة "بأنه بقدر العطاء يكون الأخذ" التي تساوي
بين الأخذ و العطاء ، فهذه قد تصدق إلى حد
ما في العلاقات الإجتماعية والبشرية ولكنها لا تنطبق على العلاقة القائمة بين
الطبيعة والإنسان .. فالشمس تهب الحياة لوجودنا دون أن تأخذ منا شيئاً (والدكتور
يرى حتى في سلوك الشمس هذا أنانية أيضاً!!) والنبات يهبنا الهواء الذي نتنفس
والغذاء الذي به نعيش ، ولا يأخذ منا إلا فضلاتنا والسموم!!
ويستبد بأديبنا الشك والوسواس وسوء الظن
في الناس إلى حد قوله "لا أحد يضحي بلا سبب ، والسبب الأول والأخير بأية
تضحية هو الأنانية".
ويذهب في غلوائه إلى حد قوله " عندما
نتحدث عن الحب ، بأي شكل من أشكاله المعروفة ، فليس له إلا هذه الأنانية" بل
ويرى أكثر من ذلك بأن "الإنسان يريد مصلحته فقط ، حتى عندما يحب أولاده ، و
أن الزوجة بالنسبة للزوج وسيلة لتحقيق بعض هذه الأنانية ، وكذلك الحال بالنسبة للزوجة ، لا تعتبر الزوج
سوى قنطرة لتحقيق مآربها الأنانية " ... ونسف كل جسور التواصل والحوار مع
الرأي الآخر بقوله : "إن أي ادعاء غير ذلك نفاق ومضيعة للوقت " بل وحتى
العقل ، مصدر الخير والعلم والحكمة ، لم يسلم من طائر صاحبنا الأديب ، حيث يرى "بأن
العقل إنتهازي لا يعرف إلا استقراره ... إنه أناني إلى حد التضحية ، إذا اقتضى
الأمر ، بجسمه هو."
تُرى
من بعد كل ذلك ، أية فضيلة بقيت للبشرية وأية مكرمة أو كرامة ؟! أية مأثرة وأي
معيار أخلاقي أبقاه الدكتور لبني الإنسان يتفاضلون به ويتمايزون عن بعضهم البعض في
كل زمان ومكان ؟! والأنكى من ذلك أنه لم يقل كل ما قاله اعتباطاً أو جزافاً ، بل
وعن سابق عزم وتصميم ، ليجرد الإنسان من إنسانيته، ويسقط عنه كل صفات النبل
والتسامي ، كمقدمة يبرر بها قناعته النهائية القائلة "بأن السير على اثنتين
لا يعني أن الإنسان قد اختلف كثيراً عن الحيوان" ، بذلك يبلغ الكاتب منتهى الحيف والإجحاف في حق
الإنسان وإنسانيته ، فهو بهذا الطرح المغالي
، يُلغي كل أثر للعقل والعلم والقيم والأديان ومفردات الحضارة وآثارها في
تشذيب وتهذيب السلوك البشري والارتقاء به عن مستوى التفكير والسلوك الحيواني
البهيمي ، ثم أنه بذلك ، أيضاً ، يُلغي أو بالأحرى يُسفِّه بأعظم المشاعر التي
كانت وستبقى إلى أبد الآبدين السر الكامن وراء بقاء واستمرارية الكائنات الحية في
هذا الوجود ، ألا وهي مشاعر أو عواطف الأمومة والأبوة الموجودة غريزياً بكل ذكر أو
أنثى من الأحياء ، البشر منها والحيوان على حد سواء ... فإن تكن هذه العواطف ضرباً
من الأنانية عند الإنسان ، فماذا عنها يا ترى عند الحيوان الذي لا يعي من أمر
وجوده شيئاً سوى اللحظة التي هو فيها ،
سيما وأن الأنانية فعل واع مخطط له ، يهدف
إلى تحقيق مآرب أو مكاسب شخصية في الحاضر أو المستقبل"
الواقع
الأخلاقي والحقيقة الأخلاقية
غير أن طبيبنا الأديب ، وكأنه أحس بضرورة
تبرير أو تعليل آرائه "المثيرة" تلك لقرائه ، كتب يقول : "لا توجد
حقائق أخلاقية بالنظام الإنساني ، فالخير ليس مرهونا بالناس الضعفاء ، ولا الشر
بالناس الأقوياء ... فلا يوجد فقراء ولا أغنياء أخلاقياً في عالم البشر ، ولكن ما
يوجد هو أنانية – حسب رأيه – تحدد أفكار أي منا" ... ثم يأتي لتأثير الزمن في
تغيير المفاهيم الأخلاقية فيقول : " إن الكثير من الأخلاق الواقعية التي كانت
خطأ بالنسبة للمجتمع قبل حين ، لم تعد الآن خطأ ، والكثير مما كان صحيحاً أخلاقياً
لم يعد الآن كذلك ، بل ربما أصبح خطأ ، والسبب هو أن الزمان كفيل بدمج الواقع
الأخلاقي السلبي والإيجابي معاً تدريجياً بالحقيقة الأخلاقية ، وعلى هذا الأساس ،
فإن الفارق بين الخطأ الأخلاقي والصح الأخلاقي سينحسر مع الزمن ، ذلك ، رغم أن
الإنسان يخشى التغير عموماً حتى لو كان لصالحه ، فالجميع يتذمر من الجديد أخلاقياً
، باعتباره حقيقة تحاول الاقتراب من الواقع ... غير أن عملية اقتراب الحقائق من
الواقع ، واقتراب ما كان مرفوضاً من القبول ، عبر كل مراحل التاريخ ولدى جميع
الأمم والشعوب ليس بالضرورة عملية تمييع للواقع الأخلاقي ، فما كل جديد متميع
، ولا كل قديم صلب ، فالحشمة الأخلاقية
موجودة لدى الجيلين القديم والجديد ، كما أن العار الأخلاقي موجود لدى الجيلين
أيضاً ، ولأي جيل واقعه السلبي والإيجابي".
وأنا هنا أتعارض معه في نواحٍ وأتقاطع معه
في نواحٍ أخر ، ... أتعارض معه حين يعزو كل فكر وسلوك إنساني إلى الأنانية فقط ،
لأنه ، في حقيقة الأمر ، ما يحدد سلوك
وأفكار وتصرفات أي إنسان هو ليس "الأنا" فحسب ، بل البيئة المحيطة به
أولا ، وضميره الأخلاقي ثانياً ، ثم إثبات الذات أو ما يُسمى "بالأنا"
ثالثاً . ولعل الضمير ، ذلك الرقيب الداخلي العتيد والوازع الذاتي ، الذي يحدد
مقدار وجوده في هذا الفرد أو ذاك ، شخصية الإنسان وسلوكه الاجتماعي في الحياة
، لعل هذا الضمير هو أهم ضلع في المثلث
الأخلاقي والقيمي لدى أفراد المجتمع ، بل هو البوابة أو بالأصح "الفلتر"
الذي تمر من خلاله كل التأثيرات والمؤثرات الداخلية والخارجية ، فلا يبدي الفرد من
السلوك ولا يظهر من رأي أوفكر ، إلا ما يسمح به عقله ، ويرضاه ضميره.
ولكن في الجانب الآخر ، ما هو الضمير ؟ هل
هو شيء مولود أو فطري الوجود ، أم هو شيء مكتسب ؟ هل هو نتيجة أم سبب؟ أو بكلمة
أخرى ، من يحدد الآخر ؟ الإيمان الراسخ المسبق بمجموعة من المعتقدات والقيم هو
الذي يحدد الضمير ويشكله ، أم أن الضمير هو الذي يحدد مجموعة المعتقدات والقيم
التي يؤمن بها الإنسان ، ويبني عليها سلوكه وتصرفه ؟
من الواضح جداً أن الضمير إن هو إلا نتيجة
وشيء مكتسب ، يشكله الإيمان الراسخ
والمسبق ، بمجموعة من المعتقدات والقيم
الأخلاقية التي عايشها أو تربى عليها هذا الفرد أو ذاك في هذه البيئة أو تلك ،
والتي جاء بعضها من الموروثات الحضارية التاريخية التي شكلت مع الزمن دستوراً
أخلاقياً مشتركاً ، التقت عليه كل الأقوام والأمم على اختلاف مناحلها وأماكنها عبر
العصور ، فهناك الكثير من القواسم المشتركة التي وحدث ضمير البشرية على هذه
البسيطة من عهد حمورابي وربما قبله بأزمان ، فليس من لا يعتبر السرقة ، مثلا ، أو القتل العمد "جريمة" ، وكذلك "الاغتصاب" "والزنى
بالأرحام" ، حتى لدى المجرمين المقترفين لهذه الكبائر والمنكرات ، فهم في
قرار أنفسهم يعرفون أنهم أتوا فعالاً منكرة و شنيعة ، وإلا لما مارسوها في السر
والخفاء . وفي المقابل ، ليس هناك من لا
يجلُّ أو يعجب بالشهامة والكرامة ، أو التضحية والفداء ، أو السماحة والعفو ، أو
التواضع والسخاء ، أو العلم والعلماء ، حتى عند لئام الناس أو من قصر باعهم عن نيل
شيء من تلك الصفات . فكل صنيع فيه نفع وصلاح للغير ، هو خير وفضيلة ، وكل فعل فيه ضير وطلاح للغير
، هو شر ورذيلة . بذا تكون عوامل الخير
معروفة ، وصفات الشر معلومة ، وما كلمة
الضمير، إذن ، إلا ترجمة أو معنى آخر لفعل الخير والالتزام بالفضيلة ، وبمقدار
إيمان هذا الفرد أو ذاك بعوامل الخير ، ورسوخها في نفسه ، بمقدار ما يكون لديه من
ضمير حي ، وسلوك نبيل والعكس بالعكس صحيح.
وأما ما أتقاطع معه فيه ، فهو نظرته للتطور والتغير المضطرد ، للكثير من
السلوكيات والمفاهيم الأخلاقية ، حيث أن ذلك شيء ملحوظ وملموس في واقع الحياة عبر
عصورها المختلفة ، لأنه أمر مرتبط بحتمية التطور والتغير الحلزوني المتواصل
والمتصل بكل جوانب البيئة التي تسكن في خضمها البشرية ، والإنسان ابن البيئة التي
يعيش فيها ، ففكره وسلوكه وقيمه و مبادئه ، إن هي إلا انعكاس تلقائي لمجمل وسائل
العيش والإنتاج والاتصال المحيطة به وما تفرزه ، أو بالأحرى تفرضه من علاقات
اجتماعية واقتصادية مغايرة ومتجددة ، يجد الفرد نفسه مرهوناً بها ، منجرفاً
بتيارها ، لا قِبَلَ له على الاختلاف معها أو مقاومتها ، فليس له إلا التأقلم
والتكيف معها والقبول بها كحقيقة واقعة لا
مناص منها ... من هنا كان اختلاف الناس حول المفاهيم الأخلاقية بما فيها الرذيلة
والفضيلة ، أو العيب أو اللاعيب الأخلاقي
، حسب طبيعة المجتمعات التي يعيشون فيها ، ونوع وسائل الإنتاج والعلاقات
الإنتاجية السائدة بتلك المجتمعات ... وما تلك الممارسات أو السلوكيات التي ندعوها
بالأخلاق بكل مفرداتها سوى ما تعارف عليها القوم فصارت أعرافا أو ما اعتقدوا بها ،
صواباً أو خطأً ، فصارت معتقدات ، أو ما عودوهم عليها حكامهم وحكماؤهم – لحاجة في
نفس يعقوب قضاها – فصارت لهم عادات وأعرافاً ومعتقدات يتوارثونها جداً عن سلف
وجيلاً بعد جيل.
لذا ، كانت كل المفاهيم والقيم الأخلاقية
مسائل نسبية في مدى صوابها والخطأ ، فما هو رذيلة في مجتمع من المجتمعات قد يعد
فضيلة في مجتمع آخر ، والعكس بالعكس صحيح أيضاً ، ولا نستطيع ، بل وليس من حقنا أن
نستهجن أو نحقِّر من اعتبر الفضيلة عندنا رذيلة عنده ، ولا من اعتبر الرذيلة في
عرفنا فضيلة في عرفه ، لأنه لكل رؤاه وعقله وحصافته التي من الحماقة بمكان
الاستهانة بها أو التعالي عليها ، فالتفاضل والتمايز بين المجتمعات البشرية منذ
بداية التاريخ ، لم يكن يكمن في معتقداتها أو عاداتها والسلوك الشخصي ، بل فيما
أنتجته وقدمته للحضارة الإنسانية ، من علم وعمل ، ومن إبداع وفن وفكر ، يترك بصمته
الخالدة في ذاكرة التاريخ البشري ، يغير من وجه الحياة ويرقي بها سلالم المجد
والرفعة والخلود.
لقد آن لمومياء الكثير من المعتقدات والعادات
والقيم أن تطمر وتدفن ، وآن لشرانق العقل والفكر أن تتمزق ، وأن ننظر للحياة من
حولنا بمنظار القرن الواحد والعشرين ، لا بمنظار تشظت الرؤية في عدساته وتشوهت
لتقادم الدهر عليها وما علاها من غبار القرون !!
لقد آن لنا أن ننظر في جرأة في أسباب
الحضيض الذي نحن فيه ، وبالمقابل ، في عوامل بلوغ الأمم من حولنا أعلى مراتب الرقي
والتقدم .
نعم ، آن لنا أن
نشرِّح كل شيء ذا صلة بنا وبهم ، من المعتقدات والأفكار والقيم بل والسلوك اليومي
، لنجد في تلك التي تخصنا ، الكثير من العفن ، ومن مسببات العاهات والأمراض التي
تبعث في أجسادنا الضعف و العجز والوهن ، ولنكتشف فيها أيضا، الكثير من القيود
والأغلال التي تكبل عقولنا ، وتعرقل الخطو
، وتقصر الخطى عن مواكبة الركب في هذا الزمن ، ولنتعرف ، في الجانب الآخر على
مواطن القوة ، وعوامل النهضة والانطلاق عند تلك الأمم الحية المتقدمة. ونعمل على
الاقتباس منها ، والاستفادة من خبراتها الحياتية ، علَّنا نلحق بها ، أو نحقق
شيئاً مما حققته ، من إنجاز ورقي علمي و اقتصادي وحضاري رفيع.
الرجل
الشرقي و المرأة
بَيدَ أنَّ صاحبنا الأديب ، رغم هذه
الوجهة النظر الليبرالية والأطروحات التي تصل في تقدميتها وحداثتها تخوم
الراديكالية ، حول الواقع والحقيقة الأخلاقية بقي في أعماقه ذلك الرجل الشرقي ، الرجعي في أفكاره ونظرته للمرأة ، فهي في
مجمل حديثه عنها ورؤيته لها مجرد امرأة ، أي مارية للشر بفتنتها ، أو حرمة ، أي محرومة
من الحصافة والعقل في سلوكها والتصرف ، وهن مجتمعات نساء بمعنى ناسيات لجميل
العشرة والمذهب ... وهو في النهاية لا يرى في المرأة إلا أنها عورة في عورة ، فكل ما فيها – على رأيه – حركتها ، لباسها ،
صدرها ، فمها ...كل شيء فيها يشبه أو يشير إلى عضوها التناسلي.!!!
وهي عنده
: "حيوانة جميلة" ، ذات مشروع جنسي دائم ، لا تثق بأحد ، ولا تحفظ
عهداً ولا ذمة لأحد ، من طبعها الخيانة الزوجية
، والزنى الجسدي أو النفسي على الأقل ... تمارس الدعارة الأنيقة في كل عمل
تؤديه ... وتعتبر في الوقت ذاته الرجل مخلوق مغتصب ، وعدو محتمل بالنسبة لها ، مهما كانت حسن نيته ، حتى الزوج فهو مشروع
خيانة دائم في عقلها ، أنها عدو مهذب وبلا
هدنة ، تبحث عن الرجل ليلتها ، وتصطاده –
كأنثى العقرب – بعد التلقيح والحمل . وهي
مقبرة للعطاء ... لا تنتهي مطالبها ... تبقي الرجل في حالة من الناعور الدائري
ليسقي الأرض المزعومة ، وذلك في سعيه
لإرضائها وإبعادها عن الخيانة"
و لكن يبدو أن أديبنا ، من بعد كل هذا
التشهير بالمرأة ، وإلصاق كل صفات اللؤم
والرذالة فيها ، يبدو أنه تذكر شيئاً مهماً جداً (نسيه أو تناساه لحظة البُحران
التي عاشها في الكتابة) جعله يضع لنفسه خط رجعة يحفظ له ماء الوجه لدى كل من له حق
العتاب عنده (!!) ، فكتب مستدركاً وكأنه يعتذر عن غلوائه وتعميمه قائلاً: "لو
ترك الأمر للمرأة بظرف أفضل ، وصيانة تربوية أنظف ، لما بقيت زانية على الإطلاق ،
فلا توجد امرأة في العالم ، بل وفي التاريخ
كله ، ترغب أن تكون مومساً على الإطلاق ... إن انحرافات المرأة الاجتماعية ليست
أصيلة فيها بل عرضية".
والحق أنه لا لوم عليه ولا تثريب فيما بدا
عليه من ضبابية في الرؤية، وتشوش في الفكر، وتذبذب في الرأي ، فهو قد وقع في
المحظور اضطراراً غير مختار، لأن الموضوع الذي أراد الحديث فيه أو عنه يُعد بحق
متاهة الفكر الذي حار في تعليله واختلف حوله جهابذة العلم وأساطين الفلسفة منذ أن
بدأ الوعي والشعور لدى الإنسان ، فما اختلف الناس ولا اختصموا ، بل ولم يقتتلوا
على شيء ، قدر اختلافهم وتخاصمهم واقتتالهم حول هذا" الكائن- اللغز"
المسمى بالمرأة ، لما تنطوي عليه أنوثتها من جاذبية جنسية ومشاعر مرهفة ودية ،
ورقة وعذوبة ، وعواطف مشبوبة ، وجمال ساحر
خلاب . فمنهم من رأى هذا الكائن نعمة على الحياة الإنسانية ، ومنهم من رآه نقمة ،
منهم من بجَّل المرأة وعظَّمها على تلك الصفات ، ومنهم من حقَّرها ورذَّلها عليها
، منهم من اعتبرها شيطاناً رجيماً ، من شأنها الفتنة والغواية ، ومنهم من اعتبرها
ملاكاً رحيماً من شأنها الرحمة والهداية ، .. ومن أجل ذلك ظلت عند الكثير من الأمم
والحضارات القديمة مجرد شيء من سقط المتاع ، وإن رسالتها في الحياة لا تعدو توفير
المتعة والإمتاع ، كحال الأمر في الحضارتين اليونانية والرومانية ، إلى الحد الذي
ظهر فيه عندهم ما يُعرف بمبدأ اللذة الراديكالي الذي عبر عنه الفيلسوف اليوناني Aristipus
بقوله : "إن هدف الحياة هو ممارسة أقصى ما يمكن من المتع والملذات البدنية ،
وأن السعادة هي مجموع هذه المتع والملذات " . ولعل هذا ما يفسر وجود الكثير
من المفردات والمرادفات الواصفة للمرأة ، كشيء جمالي وكمالي ، حتى في لغتنا
العربية ، كالسراري ، والغواني ، والقيان ، وربات الخدور ، وحريم القصور ، إلى آخر تلك القائمة من
التسميات التي لا توحي بغير استخدام المرأة وسيلة للتلذذ والمتعة.
بل وفي التاريخ البشري من أيقن أن المرأة
والمال هما السر الكامن وراء الحروب والمحن التي عصفت وما زالت تعصف بحياة الإنسان
، فما كان من قوم كالقرامطة – مثلاً- إلاّ أن أعلنوها مشاعية على المرأة والمال ،
كحل في رأيهم للمعضلة التي ظلت تؤرق البشرية ، وتسمم حياتها ، وتسيل من بنيها _منذ
عهد قابيل وهابيل _ أنهراً من الدماء والدموع ، ورأوا بالتالي ، أن ما اختصم الناس أو اقتتلوا على ملكيته
وامتلاكه ، أحرى به أن يكون مشاعاً بينهم جميعاً ، لا ملكية فيه لأحد منهم بعينه
!!.
أما مسألة الزنى والخيانة الزوجية فتلك
أيضاً من الأمور الكبرى التي يحار فيها العقل ويستعصي فيها الفكر والتفكير ، إلى الحد الذي دفع "بفريدريك انجلز ، أحد مؤسسي مذهب الاشتراكية العلمية ، إلى القول
:"بأن الخيانة الزوجية كالموت لا علاج له".
وإلى الحد الذي دفع " بجان بول سارتر
" صاحب نظرية "الوجودية" إلى اقتناعه بعبثية الزواج الشرعي ، واختراعه
، بالتالي ، لما عُرف
"بالزواج الخالد" الذي يتفق بموجبه كل من الزوجين ، المرأة والرجل ،على أن يكون لهما حرية الممارسة الجنسية ، مع
أي يشاءان ، بأي زمان وأي مكان ... وهو أمر نجد له صوراً شبيهة في المجتمعات
البدائية ، بما في ذلك عندنا بين بعض القبائل القاطنة بجبال ظفار ، حيث يوجد عندها
_ حتى عهد قريب _ ما يعرف بظاهرة "الفريك" باللغة الشحرية هناك ، وهي ظاهرة أو عُرف ، يعطي الحق للزوجة أن تحب من تشاء ، من غير
زوجها - و لكن بغير زنى - وتطلب من عشيقها أن يتقدم لزوجها بفسخها وطلب يدها منه ،
فيطلقها الزوج بأي صورة من الصور ويتزوجها العشيق.
ولعل هذه القناعة التي وصل إليها الكثير
من الفلاسفة والمفكرين – كما أسلفنا – حول حتمية الخيانة الزوجية ، أو تكاد ،
من أحد طرفي الزواج أو من كليهما معاً ، لعل هذه القناعة هي التي حدت بصاحبنا
الأديب إلى مهاجمة "الحب" والسخرية منه بقوله : "أي حب هذا الذي
يتحدثون عنه ، الاثنان أنانيان كبيران، ومنافقان لا يشق لهما غبار ... عندما يخلص
المحب لحبيبه ، إنما هو يخلص لنفسه هو بغض النظر عن هذا الحبيب المغفل ، ولحسن
الحظ فإن هذا المغفل يقوم بالدور نفسه وبالتالي فإنها حلقة من اللصوصية
المهذبة".
غير
أن لي في كل هذه المعمعة رأي آخر ، فليس هناك فيما يبدو لي ، وسط كل هذا الزحام من
الأفكار أو الصراخ والعراك الفكري والنفسي ، شيء اسمه "الخيانة الزوجية"
... فإن نحن تجردنا مما يُعرف "بالغيرة " ، ومن تقاليد وأعراف "القبيلة " ، وتخلصنا من ركام القرون ، والرواسب الفكرية لمجتمعات الإقطاع والعبودية
، وما فيها من نظرة دونية للمرأة ، المعتبرة
إياها كقطعة من قطع الأثاث أو المقتنيات المملوكة ..إن نحن تجردنا من تلك
المعتقدات والأفكار البالية المنغلقة السقيمة ، ونظرنا للمرأة ككائن حي مساوٍ
للرجل في حقه في الحياة – رغم اختلافه عنه في الواجبات بحكم اختلافه الفسيولوجي و
الوظيفي – متعادل معه في امتلاك المشاعر
والأحاسيس والرغائب ، وبالتالي في حقه المطلق المساوي لحقوق الرجل ، في إظهارها أو
التعبير عنها ، قولاً وعملاً ، أقول إن
نحن فعلنا ذلك ، فلن نجد في الأمر ، أي في سلوك الزوجين ، أي شيء اسمه الخيانة الزوجية ، بل سنرى أن ما
يحدث في هذا الإطار ، من هجر أو صد ، أو تخل وانصراف من أحد الطرفين ، أو من كليهما معاً ، إن هو إلا شيء طبيعي
جداً ، وفطري أصيل في النفس البشرية الحية
الموَّارة بالمشاعر الجياشة ، التواقة للترقي والتجدد و التغير
فالحياة
في مجملها وفي كل صورة من صورها الطبيعية والاجتماعية ، متغيرة ومتجددة ، تغيراً وتجدداً تلقائياً أبدياً ، فليس من
طبع الحياة الثبات أو الجمود وليس من ديدنها الاستقرار أو البقاء على حال أو وضع
بعينه ، بل تلك أمور من صفات الموت والعدم
، وبالتالي ، فإن ما قد يبدو لنا خيانة من
أحد طرفي الزواج بهجره إياه ، أو تخليه
عنه ومصاحبته أو توجهه لطرف آخر ، ليس في حقيقته سوى ترجمة صادقة لصيرورة أو
لحتمية التغير والتجدد الكامنة في الحياة بوجه عام وفي النفس البشرية الواعية بشكل
خاص ، بل وإن هذا التغيير الذي نسميه "بالخيانة" يُعد في حقيقته
النهائية ، ليس مجرد إشباع نزوة ، وانما هو ضرب من ضروب البحث عند الإنسان - بشكل
واعٍ أو غير واعٍ – عن "الأفضل" "والأسمى"
"والأروع" ، من بين الظواهر
والعناصر والشخوص الألف التي يعيش معها أو يصادفها ويلقاها في خضم حياته أو
المحيط الذي يعيش فيه . فالحب لا يكون ،
ولا يحدث ، إلا نتيجة الإعجاب بشخص
نجد فيه من المناقب والصفات ما نفتقد وجودها في ذواتنا ، ولدى الأشخاص أو الفئات المألوفة لدينا ، وهذا
يعني فيما يعنيه أن الحب ، كفطرة ، وكرغبة كامنة للتطور والسمو ، يكون
"للصفات" و"المميزات" التي تلقى هوىً في نفوسنا وصدى حسناً ،
لا للشخوص أو المسميات . وهو أمر إيجابي ومشروع لو نظرنا إليه نظرة حيادية متجردة
من الأهواء والعصبية.
ومن نافلة القول أن هذه الرؤية لا تنطبق
أو بالأحرى لا تنسحب على بائعات الهوى والمومسات ، ولا على مرتادي المواخير
والأندية الليلية ، فليس ممارسة الجنس عند هؤلاء كتعبير عن ذروة الحب وقمة
الاندماج والتطابق النفسي والعقلي بين الطرفين ، كما هو الحال عند المحبين
الحقيقين ، وإنما ممارسة الجنس عند هؤلاء الشواذ ، مجرد مهنة وتجارة ، سلعتها
الجسد وغايتها الربح والكسب. أو هي في أحسن الأحوال متعة آنية لحظية ، لا تخلف بعدها أي نوع من الذكرى سوى الإحساس
بالعبثية والإحباط ، بل و بالضياع والندم.
أما الحب الحقيقي ، بكل ما فيه من عذابات
لذيذة ، من لهف واشتياق ، ومن ذوب واحتراق
، فموجود وجود الشمس والقمر في هذه الحياة ، وهو صادق ،لحظة وقوعه ، صدق البراءة
والوداعة في وجه الطفولة ، لا لبس فيه ولا رياء ، عالم من السحر والجمال والكمال
والسمو النيرفاني الذي يكل عن وصف مشاعره وأجوائه التعبير والقلم ... عالم جعل إيليا
أبو ماضي يقول فيه :-
كل
نفس لم يشرق الحب فيها هي نفس
لم تدر ما معناها
وجعل شاعر آخر يقول
:-
إذا أنت لم تعشق ولم
تذق الــهوى فكن واحداً من يابس الصخر جلمدا
بل وهو عالم جعل
المتنبي يعجب من موت غير العاشقين ، من بعد هزئه بهم :
وعذلتُ
أهل الحب حتى ذقتــه فعجبت كيف
يموت من لا يعشق
عالم
،كل من يلج إلى وهاده وواحاته وشطآنه الحالمة الجميلة ، يعيش تجربة إنسانية رائعة فريدة ، تحيل ليله
نهاراً ، وكوخه قصراً، وعبوسه ابتساماً ، وناره برداً وسلاماً ، وصحاريه المقفرات
روضاً غناءاً وارف الظلال عليل النسمات.
تجربة بكل ما فيها من عذوبة وعذاب ، من
وصل ووئام وانسجام ، أو من هجر وعتاب وخصام ... تجربة بكل تلك المنعطفات ، فجرت في أعماق النفس البشرية ، عبر التاريخ ، أعذب الينابيع الدفاقة ، وأعظم المناجم الزاخرة بالمعادن الثمينة
والأحجار الكريمة ، التي سال ذوبها قصائد شعر سنية ، وقصص حب بهية ،خلدت لنا أجمل الذكريات
الإنسانية ، التي يحلو للإنسان استرجاعها
وقضاء أحلى سويعاته معها على مر العصور.
فمن لا يعجب بالإلياذة وقصة أخيل وهيلانة
، ومن لا يطرب لأشعار قيس بن الملوح في ليلى
، و أشعار قيس بن ذريح في لبنى ،
ومن لا يتفاعل وجدانياً ، من الأحياء طبعاً (!!)، مع ابن زيدون في لوعته
على فراق ولاَّدة .
أضحى
التنائي بديلاً عن تدانينا وناب
عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم
و بنا فما ابتلت جوانحنـا شوقاً
إليكم ولا جفت مآقينا
ومع حسرة
عبد اللطيف البغدادي حين وداعه زوجته الحبيبة :
استودع الله في
بغداد لي قمرا
ودعته وبودي لو يودعني وكم تشبث لي يوم الرحيل ضحىً |
|
بالكرخ من فلك
الأزرار مطلعه
صفو الحياة وإني لا أودعه وادمعي مستهلات وأدمعه |
ومن لا تخلبه قصة "روميو
وجوليت" لشكسبير ، وقصة "تحت
ظلال الزيزفون" للمنفلوطي ، و"الأجنحة المتكسرة " لجبران خليل
جبران ، و "أنَّا كرينينا"
لتوستوري ... من ، غير الحجر الأصم ، لا يذوب وجداً ، عندما يسمع أم كلثوم تغني
بصوتها العذب الشجي قصيدة "الإطلال" لإبراهيم ناجي ، وقصيدة "أراك
عصي الدمع" لأبي فراس الحمداني ... من ، غير الأموات ، لا يحلق عالياً فوق
السحاب عندما تشنف أذنه فيروز بقصيدة "يا جارة الوادي" لأحمد شوقي ، أو
حتى عندما يغني عوض الدوخي "كفي الملام وعلليني" لفهد العسكر ، وغيرها و
غيرها الآلاف من القصائد والقصص الوجدانية الخالدة التي لونت حياة الإنسان بألوان
الطيف البهية ، والتي لولاها ، لولا هذا التراث الرومانسي الإنساني العظيم ،
النابض أبداً بالحياة ، الباعث على النشاط والحيوية ، المولد للحرارة والدفء في
المشاعر والنفوس ، لكانت الحياة بدونه ، ثقيلة معتمة واهنة كئيبة .
إذاً فالإنسانية مدانة ، بدفء حياتها ،
وجمال معانيها ومغانيها ، وبالوهج الساطع بين حناياها المدلهمة ، لؤلائك النفر من أبنائها الذين عاشوا تجربة
الحب أو عايشوها برهة أو هنيهة من الزمن ، الذي ربما يكون قد مر عليهم مر السحاب
ولكن آثارها بقيت ، ولا شك خالدة في دنيانا ، خلود السفوح في الهضاب.
الخاتمـــة
:
أخيراً وليس آخراً ، الكتاب الذي أثار فينا
كل هذا الشجا والشجن ، كتاب ، ولا شك ، رفيع في أطروحاته، عميق في معانيه وغاياته
، تقف وراء كل عبارة فيه فكرة جديرة بالبحث والحوار، ولكن لدى المشتغلين بالفكر
فقط، القارئين لما بين السطور ، الناظرين لما خلف العبارة من معانٍ وصور. أما لدى
القارئ العادي فهو كتاب فاضح مبتذل، فيه من الإسفاف والابتذال في القول ، ما ينبو
عن الذوق والخلق السليم ، وما يتنافى مع قوله سبحانه وتعالى (لا يُحِبُّ اللَّهُ
الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً
عَلِيماً).
وما يتجافى مع الحكمة القائلة " لا
تقل كل ما تعرف ، ولا تصدق كل ما تسمع ، ولا تفعل كل ما تستطيع" ، لأنك ،
إن فعلت ذلك ، كنت من النادمين.
والأكثر من ذلك ربما والأهم ، هو عتابه
المر على الكاتب ، لما قام به في كتابه هذا ، من تشويه وتشويش ومسخ ، لكل معايير
النبل والجمال والقيم التي كانت ولما تزل مبعث الاطمئنان ، ومرفأ الراحة النفسية والأمان ، عند بني
الإنسان ، من سالف الزمن . وتساؤله ، بالتالي ، أي تساؤل هذا القارئ ، عن غرض أو
قصد الكاتب من وراء كل ذلك ، وعما جناه من الشوك الذي بذره بين دفتي كتابه وتلافيف
عقل قرائه هنا وهناك.
ويرى هذا القارئ _ وعنده الحق في ذلك _ أن
الحياة حينا ، صحراء وهجير ، فلا بد لها
من واحة ، وأن الحياة أحياناً ، برد وزمهرير ، فلا بد لها من كهف أو مغارة ، وأن
الحياة رحلة موحشة شاقة ، فلا بد لها من رفيق
، تلقى معه الأنس والراحة ، فهل عليها وعلى أرزائها من مزيد.
إذن ، لماذا نزيد ليلها عتمة ، وصقيعها برودة ،
ولفحها ناراً وسخونة !؟ لماذا لا نصبغ حياتنا بألوان زاهية بهية ؟ لماذا لا نقبلها على علاتها ، برضىً وطمأنينة ، حتى تلك الصور أو المواقف
التي تبعث في النفس الأسى والحزن ، فكل ما لا يُقوى على تغييره ، لا يستحق الحزن
عليه أو التفكير فيه ، لأن ذلك لن تكون محصلته النهائية سوى المزيد من الهم والغم
والنكد المليئة به تصاريف الزمن اليومية .
ثم أنه ، وهذا شيء مهم آخر ، ما الذي في
هذه الحياة في نهاية الأمر غير أنثى وذكر .. غير رجل وامرأة .. وأي معنى بل وأي
طعم للحياة ، عند رجل بلا امرأة ، أو عند امرأة بلا رجل.
إذن ، لماذا نسعى لتشويه هذه العلاقة
الخالدة البديعة بينهما ؟ لماذا نقتلع شجيرات الورد و الأقاح والياسمين من رياضها
وروابيها الخضر الجميلة ، ونستبدلها
بنباتات عش الغراب والفطر و الزوان ؟ .. لماذا لا نجعل صحبتهما في رحلة الحياة
أنيسة ممتعة ودودة ، مفعمة بالعرفان و
الذكريات النرجسية ؟
وإن افترقا ذات يوم ، لأي سبب من أسباب
الزمان ، ومضى كل منهما إلى وجهته أو
غايته ، يكون لسان حالهما يقول لبعضهما البعض :
رعى
الله قوماً بالجميل تعارفوا ولا خلفوا
بعد الجميل عتابُ
أليس
ذلك أفضل و أحرى بالإنسانية ؟؟؟ !!!!
زهران
زاهرالصارمي
28/10/2002
ã أصف
الجريمة "بالنكراء "ولا أصفها وصفه إياها "بالعملاقة" لأن
"العملقة" صفة تحمل في ثناياها الإطراء والإعجاب ، فلا يجوز أن نصف بها
إلا ما يليق بها من المنجزات العظام ، أو ما يثير في نفوسنا من مشاعر الاستحسان
والافتخار . أما الجريمة ، ففعل منكر لا تثير فينا إلا الاشمئزاز والازدراء
والاحتقار ، وهو وصف للجريمة مغالط فيه ، يذكرني بوصف مترجم أجنبي - جمعتني به
صروف الأيام – وصفه لأرض وطن تلطخت - حسب قولـه - بدماء الشهداء" ، فصححتُ له
يومها تلك المغالطة الفظيعة وقلت له : " معذرة يا صديق ؛ أرض الوطن لا تلطخه
إلاّ دماء الأعداء الدنسة ، أما دماء الشهداء فطاهرة زكية ، لا تلطخ تراب الوطن بل
تضمخه وتضرجه ، فقل : هذه مضارج الحرية يا رفيق "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق