إلى أديبتنا المبدعة
شريفة علي التوبية المحترمة .
تحية و احتراماً
..... و بعد .
بشغف و نهم قرأت مقالاتك الثرية الجميلة التي تكرمت بإطلاعي عليها ... و
الحق أنها مقالات توحي في مجملها بأن للحديث بقية .... و بأن ما جاء فيها إن هو
إلا قمة جبل الجليد !! و لا أستغرب ذلك رغم الأسى و الأسف عليه ... فتلك حالنا في
عالمينا العربي و الإسلامي ، نتوجس من الطرح ، تحكمنا الفوبيا ، و تتحكم فينا من
قديم الزمن مقولة " ما كل ما يُعرف يقال " , و مقولة " الصمت زين و السكوت
سلامة" و مقولة " لا يصلح الخلف
إلا بما صلح به السلف " , فمن تردى برداء – هكذا نرضع مع لبن الأم – ما ترداه
أبوه سوف يأتيه زمان يتمنى الموت فيه , و بالتالي من أراد منا الحياة ليس له إلا
التمسك و التشبث و التشبه بكل ما فعله أو قاله السلف فأولئك قوم كان لهم عقل و فكر
، أما نحن من جاء بعدهم ، فليس لنا من ذلك شيء يذكر ... ليس لنا غير التقليد و
النقل فكراً و سلوكاً و عادات و تقاليداً و أعرافاً و قيماً، فالمفاهيم المتصلة
بالرذيلة و الفضيلة ، و الأخلاق الذميمة و الحميدة , و مفاهيم العيب و اللاعيب ،
بقيت في حياتنا كما هي منذ عصور العبودية و الإقطاع ، رغم التطور و التغير الذي
طال كل جوانب الحياة من حولنا ، و الأدهى من ذلك و الأخطر هو أنه من شدة تمسكنا بها
و إذعاننا لتلك العادات و القيم ، اكتسبت في ضميرنا صفة القداسة ، و وقر في خلدنا
بأنها المفاهيم و الأحكام التي لا يأتيها
الباطل لا من بين يديها و لا من خلفها ، و صار لسان حالنا كلسان حال الشاعر الذي
قال :-
" و ما أنا إلا من غُزَيَّة إن غَوَتْ غويتُ و إن ترشد غزية أرشدِ " !!
فالمرأة في عرف غزية – مثلاً – مجرد عورة , و بالتالي لا يجوز تعاملنا معها
إلا كتعاملنا مع العورة ، و المرأة – كما قلتِ – في نظر غزية كائن قصر ، و مخلوق
من ضلع أعوج ، فكيف له الاستقامة أو الاعتماد عليه ، و هي كائن ضعيف لا حيلة لها و
لا قوة ، فلا بد من تقويمها بالرجال وحمايتها من الرجال بالرجال !!!. إلى آخر تلك
المقولات المضحكة المبكية عن المرأة ؛ و إن قال قائل منا بأن هذه أفكار سقيمة و
مبادئ عقيمة تخالف المنطق و سنة الحياة ، قيل له أنت العقيم و السقيم و صار بين
القوم كالبعير الأجرب !!
لذلك سيدتي نحن حيث نحن , و العالم من حولنا حيث هو ... تطور و تغير كل شيء
حوالينا , و سار إلى الأمام ، أما نحن فمازالت رؤوسنا مأخوذة بالناصية و أعناقنا
ملوية للوراء ، فبقينا ، في أفكارنا و عاداتنا و القيم ، حيث كنا قبل مئات القرون
؛ أبينا أن نطلق عقولنا من إسارها ، و أغلقنا عليها كل النوافذ التي قد تأتي منها
رياح التغيير أو أشعة الضياء و النور ؛ فانطفأ سراج العقل و مات الفكر ، و صار جل
ما يمكننا فعله هو هز الرؤوس كالدراويش ، أمعات لفلول الأمس ، و ذيولاً لسادة
العصر الذي فيه نعيش .
و للخروج من هذا المأزق الحضاري , و لانتشال أنفسنا من هذه الوهدة المحبطة ،
ليس لنا كما أرى إلا أن نقرأ بعمق و نتملى كتابات { علي حرب } لا سيما كتابه
" أوهام النخبة أو نقد المثقف
" و أن نتمعن في قصيدة " نحن و الماضي " لمعروف الرصافي التي يقول
في بعضها :-
" أرى مستقبل
الأيام أولـى ...... بمطمح من يحاول أن يسودا
فما بلغ المطامح غير
ساع ...... يردد في غـد نـظـراً سـديـدا
فوجه وجه عزمك نحـو
آت ......و لا تلفت إلى الماضين جيدا
و أسس في بنائك كل
مجــد ......طريف و اترك المجد التلـيدا
فشـر العالـمين ذوو
خمـول ..... إذا فاخـرتهم ذكـروا الجـدودا
و خير الناس ذو حسب
قديم ..... أقـام لنـفسـه حـسبا جــديــدا
فدعني و الفخار بمجد
قـوم ..... مضى الزمن القديم بهم حميدا
قد ابتسمت وجوه الدهر
بيضاً..... بهم و رأيننا فعبســن ســودا
و عاشوا سادة في كل
أرض ..... و عشنا في مواطننا عـبـيدا
إذا ما الجـهل خيـَّم
في بـلاد ...... رأيت أسودهم صارت قرودا "
أما عن" صباحك سكر " الذي طوره أبناء النيل ، فقالوا :- صباحك عسل
, و ما جاء فيه من تذمر عما يلف حياتنا المعاصرة من الرتابة و الملالة و السأم ،
فأقول بأن هذه الظاهرة ، ظاهرة الإحساس بالضنك و بالقرف و الاختناق من تكرار الصور
و الظواهر الطبيعية و الاجتماعية ، ليست بالأمر الجديد على الحياة الإنسانية و
ليست محصورة على هذا الزمن أو ذاك ، بل هي ظاهرة أزلية الوجود ، حاضرة و ملموسة عبر
تقادم الزمان و المكان ، و مهما كان للإنسان من بُلهنية في العيش أو من اهتمامات
فكرية و ثقافية أو من هموم علمية أو عملية
، لا بد له مع ذلك من أن تعتريه و تتعاوره
لحظات من الضيق و السأم بما هو فيه ، لاسيما إن ساورته الظنون و الشكوك ، أو
تلبسته الحيرة في جدوى كل ما يفعله و ما حوله من صور الحياة ، طالما أن كل من و ما
فيها إلى زوال !! فيصل عندها إلى ذلك
السؤال العتيد الذي لا أخالك تخلين منه ، ألا وهو " لِمَ كل هذا ، طالما أن
كل شيء في النهاية و قبض الريح ؟!"
و عليه فإن مقدار هذا الشعور بعبثية الحياة عند هذا أو ذاك من بني البشر هو
الذي يحدد مدى عمق الإحساس بالملالة و القرف والسأم ، و لعل من المفارقات العجيبة و الغريبة هو أن يكون العلماء و الأدباء هم
أكثر الناس0 إحساساً بهذه الظاهرة ؛ ألم يقل المتنبي :- " ذو العقل يشقى في النعيم
بعقله ..... و أخو الجهالة في الشقاوة ينعم " بل و حتى الأغنياء هم أيضا ، رغم
الغنى و الثراء الذي يتمتعون به ، من أكثر الناس إحساساً بوطأة الزمن ، فقد قيل :-
" اسعد الناس العامل و لو كان أجيراً ، و أتعس الناس الخامل و لو كان أميراً
" ؛ و هذا مثلاً الشاعر و ابن الملوك امرؤ القيس نراه يتضجر و يشكو من
الرتابة و الملل بقوله في معلقته الشهيرة :-
" و ليلٍ كموج البحر أرخى سدوله ........ علي بأنواع الهموم ليبتلي
فيا لك مـن ليل كــأن
نـجــومــــه .......... بكل مغار الفتل شدت بيذبل
كأن الثريا علقت من مــصامــهــا............. بأمراس كتان إلى صم جندل
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلــــي ............. بصبح و ما الإصباح منك
بأمثل
و هذا رهين المحبسين أبو العلاء المعري هو الآخر نراه يتأفف متعباً من كل
مظاهر الحياة حين يقول :- " تعب كلها الحياة فما ........ أعجب إلا من راغب
في ازدياد "
ثم هذا هو مثال آخر عمر الخيام الشهير بحبه لكل مباهج الحياة ، الشاعر الذي
قال :-
" لا تفكر بعد في ماض و آت لا تراه .... و اغنم الحال فهذا هو مقصود
الحياة "
هذا الشاعر ذاته نراه يقول في إحدى رباعياته :-
" هو عيش يتولى
بعضه في إثر بعض
فتأمل كيف يمضي
العمر في الحزن الممض
إنني لم أعرف الغبطة
و الراحة عمري
فسلام لحياة هكذا
تأتي و تمضي "
و قال أيضاً وكأنه
يشرح ما جاء أعلاه :-
" إن تقضى
العمر يا صاح استوى حلو ومر
و إذا ما طفح الكيل
استوى يسر وعسر "
أجل ! كل ذلك صحيح ، و لكن كاتب هذه السطور ، و لك الحق في أن تصدقي ذلك أو
لا تصدقيه ، لم يعرف في حياته ، حتى الآن ، معنى السآمة و الملل ؛ لأنه ليس في
حياته وقت اسمه الفراغ ، بل و حتى عندما كان رهين أربعة جدران طوال ما يقرب الأربعة عشر عاما ، كان في الغالب لا يحس متى
تشرق الشمس أو تغرب ، و كان و مازال كثير التذمر من قصر ساعات اليوم !!! . لماذا
؟! ربما لأنه ليس بالعالم الذي يشقيه عقله ، و لا بالجاهل أو العاطل الذي يشقيه
وقته !! و في رأيه كان من حق زهير بن أبي سلمى أن يقول :
" سئمت تكاليف الحياة و من يعش ... ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم
" ... من حقه في ذلك الزمان الغابر المحدود بإمكاناته و خياراته ؛ أما اليوم
في هذا الزمان الذي يضج بكل معاني الحياة ، الجاد منها و العابث ، فليس للإنسان
مبرر فيها بإحساسه بشيء من ذلك ، إلا أن يكون هذا الإنسان خاوي العقل و الإحساس ...
الشيء الوحيد الذي يحد الإنسان من التمتع
بمباهج الحياة هو ما قاله المتنبي :-
" آلة العيش صحة و شباب ...... فإن هما توليا عن المرء ولّى "
بل و إننا نعيش في عصر من الممكن ، و إلى حد بعيد ، أن يحيا فيه الكهول
حياة الشباب ، سيما إن هم احتفظوا بنعمتي السمع و البصر .
و إنها لقناعة أقولها لك ؛ بئس
الحياة التي يعيشها الإنسان حين تكون حياته عبئاً على الحياة ، فإما حياة تناغي
الحياة ، و إما ممات يريح البدن ؛ و ذاك ما أتمنى من الله أن يرزقنيه !!
و أما مقالك الممتاز و المتميز " البدائل " فكان ما جاء فيه
جواباً على مضمون مقالك " صباحك سكر " فكنتِ أنتِ الخصم لنفسك و الحكم
!! فلقد صدقت و أبدعت بقولك :- " فالحياة فضاء واسع بسمائه و أرضه و جباله ،
و ليله و نهاره و بحاره و اتجاهاته ، الحياة ليست لوناً واحداً كما يراها البعض ،
بل الحياة مجموعة من ألوان الطيف ، و الوجوه المختلفة . لذلك تجد أن الحياة مجموعة
من البدائل الكثيرة التي تفتح لنا أبوابها لنعيش سعداء "
و عليه ؛ فأنت حسبما توحي به مقالاتك تصورين اللحظة التي أنت فيها ، و
تعكسين ، بالتالي ، في مقلاتك رد الفعل و أثر اللحظة التي تعيشينها ، ترحاً كانت
أم فرحاً ، باسمة كانت أم مكفهرة قاتمة ؛ فأنت طوراً تتلفعين عباءة رهين المحبسين
، و تستمدين أفكارك من " تعب كلها الحياة .... فما أعجب إلا من راغب في
ازدياد "
و حيناً آخر تتوشحين بطيلسان أبي نواس و عمر الخيام ، فتقولين مثلهما :-
" لا تفكر بعد في ماض و آت لا تراه ..... و اغنم الحال فهذا هو مقصود
الحياة "
بل و تعيشين عيشهما الأجواء الرومانسية و المخملية ، و تضج بين حناياك ،
كحلم نرجسي ، الليالي النواسية ، و تحلق روحك و الأحاسيس بعيداً بعيداً وراء
خيالات الخيام النيسابورية ؛ فتقعدين " على رصيف الليل " تشعلين فتائل
روحك و المشاعر ، علك ترين " في زوايا العتمة " المتلبدة في ذلك الفضاء
اللامتناهي ، مالا تراه العين ، تحبسين
الأنفاس ، و تصيخين السمع علك تسمعين صوت
" من حملتِه في حقيبة العمر " شجواً و شجناً و فكراً !! تتمنين
لحظتها لو تتماهين مع الأثير ، فتمارسين الحرية
بلا أدنى قيود أو حدود ، علّ الغيوم المعانقة لضوء النجوم تروي روحك العطشى لكوثر
الوجود ، المشتاقة للشوق و الألم ، في زمن تساوى فيه الوجود و العدم ؛ زمن لم نعد
نشتاق فيه لأنه لم يعد به كما قلتِ معابد للعشق و العشاق و لا الفضاء الرحب لهمسات الحب و الأشواق !!
و لكن حنانيك يا شريفة ؛ من قال لك أن دنيانا يلفها الخواء ، و أنه ليس بها
ألا النباح و البكاء و العواء ، من قال لك ذلك و الحياة الإنسانية في مسيرتها
الأبدية تؤكد بأنه لكل زمان همومه و شجونه ، و لكل دهر ليله و نهاره ... و حكايات
العشق و العشاق و تباريح الهوى و الأشواق ليس لها زمان بعينه أو مكان ، بل هي من الأحاسيس و
المشاعر الخالدة خلود النفس البشرية في هذا الوجود ... نعم ! هي ، شأنها شأن أية
ظاهرة اجتماعية قد تغير لون الحلة التي ترتديها من عصر لآخر ، فتتزين بأثواب العصر
الذي هي فيه ، و لكنها لا تموت قطعا و لا تندثر ، بل لعلها عكس ذلك تماماً كما نراها ، عبر توالي العصور ، تنمو و تزدهر !!
فطيور الحب تشقى و هي سجينة الأقفاص ، و
تكون سعيدة جذلى ، و هي طليقة حرة ، تمارس على الأفنان رقصها الفتان على أنغام
قيثارتها الخالدة !
كذلك هي مشاعر الحب و الحنين لا يطالها النسيان ولا كيد الزمان أو تصاريفه
عند هذا الكائن الإنسان ؛ فالنستالجيا شعور فطري و غريزي لا يفارق النفس البشرية
حتى و هي في النزع الأخير من الحياة !! و النستالجيا قمة العشق و الشوق لأي كان يأبى
أن يفارق الذاكرة ، فيبقى في أغوارها أبداً ذلك الغائب الحاضر . و هذا الشاعر يؤكد
ما ذهبت إليه حين يقول :-
" أما و الذي لو شاء ما خلق النوى .... لئن غبت عن عيني فما غبت قلبي
يذكرنيك الشوق حتى كأنني
......... أناجيك من قرب و إن لم تكن قربي "
و أنتِ ذاتكِ ، رغم ما يلف الحياة من
حولكِ من أحداث هذا الزمان العجيبة و الرهيبة ، لم يمنعك كل هذا الضجيج و النعيب و
الصخب من الشوق للشوق ، و لم تتهيبي من الجلوس لوحدك " على رصيف الليل "
كتودد الجارية !! و لم يحرمك من بث أشواقك و الحنين " إليه هو فقط "
.... مهد رسيسك الأول .
و إلى لقاء أدبي آخر .
و لك خالص
التحية من العم
زهران بن
زاهر الصارمي _ إمطي
15/1/2006
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق