الأربعاء، 8 فبراير 2012


موقف وقضية

زرت مدرسة ذات مرة ، فكان أن لفت انتباهي بيتين من الشعر كتبا على أحد جدرانها يقولان :-

لوكانت الدنيا تنال بفطنة
لكنما الأرزاق حظ وقسمة


وفضل وعقل نلت أعلى المراتب
بفضل مليك لا بحيلة طالب


والحق أني صعقت أن أقرأ ذينكما البيتين في مدرسة ، فهما على الأقل ينافيان قاعدة الذوق التي تدعو بأن يكون لكل مقام مقال، فليست المدرسة قطعا مقاما لمثل ذلك المقال، وجال بخلدي على الفور الأثر المحبط الذي يخلفانه ذانكما البيتان في نفس أي طالب يقرأهما، فهما أشه ما يكونان بالمطرقة تنزل على أم رأسه فلا تبقي له توازنه، ولا تبقي له نصيبا من إرادة ، إنهما يسلبانه العقل ويجردانه من كل فضل، ويتركانه كغصن في مهب الرياح... رياح الحظ النكد، والقسمة الضيزى والقدر المجهول. إنهما ليسا أشبه ما يكونان بالرصاصة القاتلة، بل هما حقا رصاصة سامة قاتلة، تغتال في الإنسان أثمن وأعز و أقوى ما لديه في مواجهة الحياة، والوقوف على قدميه فيها... تغتال فيه العزم والجلد، وتخمد في أعماقه جذوة الكفاح وروح التفاؤل والأمل.
       ترى ما الذي أبقاه هذان البيتان لهذا الطالب الغر المسكين الصاعد لتوه في معترك الحياة؟! مع الأسف الشديد لم يبقيا له شيئا على الإطلاق، حتى رغبته للعلم، وقناعته بأهميته، سلباه إياهما ، فلماذا إذن يدرس؟! لماذا يتعلم ويتعب نفسه في الدراسة والحفظ والمذاكرة؟! طالما أن كل ذلك عبثا وقبض الريح، وأنه في نهاية الأمر مهما درس أو تعلم، ومهما احتال على نفسه أو جد واجتهد، فلن يغير أو يبدل شيئا من واقع حياته المقبلة، ولن يزيد أو ينقص في رزقه المكتوب له سلفا، فالنصيب هو النصيب، أكان عالما أو جاهلا، عاملا أو خاملا ، وحظه من الدنيا هو الحظ المولود به، أصار من بعد ذلك ساذجا سفيها، أو فطنا نبيها.
       أي فكر محبط هذا وأية دعوة فيه للخواء والخور؟!
       وبينما كنت أستعرض في عقلي كل تلك التداعيات التي ولدتها في نفسي قراءة ذينكما البيتين، إذا بمدير المدرسة ينتشلني من توهان الفكر مرحبا بي ثم مردفا قائلاً،  وقد لاحظ وقوفي هناك وشرودي والتأمل ، : أراك أطلت الوقوف هنا متأملا في هذين البيتين ، هلا أعجباك؟
       فأجبته من فوري، وبصوت فيه كل معاني الرفض، لا ، بل لم يعجباني قطعا. وواصلت حديثي متجاهلا تقاطيب جبينه المستنكرة لجوابي – سائلا إياه في أسى مكبوت: ما هذا الذي تكتبونه للطلبة؟!
فأجابني ببساطة – ولما يعلم بعد سبب طرحي لذلك السؤال – هذه حكمة قالها السلف الصالح ، ونحن نربي الطلبة على حفظها والأخذ بها ، تقديرا منا واحتراما لذلك السلف.
فقلت له: وأنا أسعى جاهدا للاحتفاظ بهدوئي ورباطة جأشي: معذرة أستاذي الجليل، مع احترامي الشديد لذلك السلف، إلا أني أرى أن ما قاله كان حكمة ظاهرها الإيمان والرحمة، وباطنها الكفران والنقمة، فهي تضرب عرض الحائط بكل جهد أو عمل يقوم به الإنسان ، وتسفه بعقله وفكره وحصافته، وتدعوه للخنوع والخمول والتقاعس والكسل عبر تجريدها وإلغائها لأية قيمة أو تأثير للعلم والعمل، في تشكيل حياة المرء ، أو تدعيم سبل اكتساب عيشه ورزقه فيها.
بل وأن سلفك الصالح هذا – كائنا من يكون- قد خالف بقوله هذا وخرج على أعظم وأهم القيم الأساسية للإسلام ذاته، فالإسلام دين العقل والفكر والتدبر، فعشرات الآيات في محكم آياته تنتهي بمقولة: لقوم يعقلون.. ولقوم يتفكرون... ولأولي الألباب. و الإسلام دين العلم والعلماء: " قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون"  . والإسلام دين الكدح والجد والاجتهاد : "ويا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه " ... و " قل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون.".. و " إن الله لا يضيع أجر المحسنين " . كما أنه " لا يضيع أجر من أحسن عملا ". وقد زجر عمر ابن الخطاب رضي الله عنه القاعدين الرافعين أكفهم للسماء طلبا للرزق قائلا لهم: إن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة. وعندما جابهوه بقول الله :  " وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها " فكيف لا يأتيهم الرزق حيث هم ؟! قال لهم عمر: ولكن الرزق يأتي حسب قوله تعالى : " قل سيروا في الأرض واسعوا في مناكبها ". لا بقعودكم حيث أنتم ، وعلاهم عمر بالدرة!!
       فأين سلفك الصالح هذا من هذه القيم الإسلامية الرفيعة؟! ألا يعد ما قاله خروجا على تلك القيم وجحودا لها ؟!
       ثم أين وقع هذين البيتين لسلفك الصالح من وقع البيتين القائلين :-
بقدر الجد تكتسب المعالي
ومن طلب العلا من غير كد
ج

ومن طلب العلا سهر الليالي
أضاع العمر في طلب المحال

       وأين وقع ذينكما البيتين – مثلا آخر – من وقع البيتين القائلين :-
وما نيل المطالب بالتمني
وما استعصى على قوم منال
ج

ولكن تؤخذ الدنيا غلابا
إذا الإقدام كان لهم ركابا

       أما كان الأجدر بكم والأجدى ، أن تكتبوا للطلبة هذه الأبيات ، وأمثالها من التي تستوفز فيهم العزم ، وتستنهض فيهم الهمم ، وتذكي في نفوسهم جذوة الكفاح وحب الاجتهاد والعمل؟!
       صحيح أن للحياة في كثير من الأحيان عبثية هازلة، باعثة على السخط والاستياء، عسيرة الفهم والهضم، حتى لذوي الألباب الأذكياء ، في لعبة الحظ والقدر ، عبر عنها المتنبي بقوله.
ولم لم يعل إلا ذو محل
ج

تعالى الجيش وانحط الرغام

       وفصل في سرد أحوالها ابن الورد بقوله :-
هذه الدنيا ومن عاداتها
كم شجاع لم ينل منها المنى
كم جهول بات فيها مكثرا
ج

تخفض العالي وتعلي من سفل
وجبان نال غايات الأمل
وعليم بات منها في علل

       ولكن هذه العبثية – المأساة هي في نهاية التحليل من صنع الإنسان ذاته لا من صنع القدر الساخر كما يتبدى للبعض. إنها من صنع الأقوياء ، وأصحاب الفكر والمكر والدهاء ، وكان ضحيتها على الدوام هم البسطاء الضعفاء ، والناس الأوفياء الشرفاء. فكل يتعامل مع الحياة وينظر إليها ولمن حوله بعين طبعه!!
       ثم أن هذه العبثية مهما كان مصدرها ، إن هي قد استعصت على فهم أصحاب التجارب والعقول، وأوقعتهم في حيرة من أمرها وأمرهم معها، فكيف لا يستعصى فهمها على عقل ذلك الطالب الغر البريء الذي نحاول أن نفرضها عليه فرضا ، أو نلقنه إياها تلقينا ، فلا تكون نتيجتها لديه سوى الاستسلام والكف عن كل محاولة للارتقاء بذاته أو تحسين أحواله . فهل هذا هو المطلوب؟!!!
       وفوق هذا وذاك ، وهذا هو الأهم ، تؤكد الحياة وتجاربها الإنسانية التي لا تحصى بأن : " ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى."
وبأن قيمة الإنسان ما يحسنه
ج

أكثر الإنسان منه أم قل

       والشواهد الحية الألف ، التي نراها تقع من حولنا كل يوم تقريبا، لنماذج بشرية ، تثبت بما لا يدع مجالا للشك بأن :-
العلم يرفع بيتا لا عماد له
ج

والجهل يهدم بيت العز والشرف

       وليس من شيء في هذه الدنيا ، كالعلم ، يحتاج في نيله ، للفطنة والجد والاجتهاد الدؤوب!
       فتلك هي القيم الرفيعة التي ينبغي أن نربي عليها أجيالنا الصاعدة ... قيم الجد والإجتهاد والكفاح العنيد المثابر ، في سبيل العلم والعمل والحياة الأفضل ، لا أن نفت في عزمهم أو نوئد فيهم روح الطموح والأمل ، بإغراق عقولهم أو تكبيلها بمقولات القدر العابث بحياتهم والمصير.
       هنا قال لي المدير محتدا وقد أسقط في يده ، واستعصت عليه الحجة : نحن لم نأت بهذين البيتين من عندنا ، بل قالهما واحد من السلف الصالح الذي لا يصح أن نطعن في أقواله ، أو نشكك في سداد فكره.
       فقلت له محاولا أن أحفظ له ماء وجهه : أستاذي الجليل ، أنا لا أطعن أو أكشك في أقوال السلف ، ولكني كإنسان وهبني الله العقل والفكر ، وأمرني باستخدامهما ، أفند تلك الأقوال التي إن هي إلا أقوالا لأناس مثلنا ، في نهاية الأمر ... يجوز عندهم الصواب والخطأ ، كجوازه عندنا ، ويحتمل وجود الغث ، في أقوالهم ، بجانب السمين ، كاحتماله في أقوالنا ، سواء بسواء ... فلا عصمة إلا لقول الله ، وحديث رسوله الصحيح المتواتر . فلماذا نحقرن أنفسنا ، ونزري بعقولنا أمامه ؟! ولماذا نضفي هالة من القدسية على آرائه وأفكاره ؟! ... لماذا نغمض أعيننا عن النظر في أقواله وقراءتها قراءة عقلية فاحصة نقدية؟! فنأخذ ما يفيدنا وما يتلاءم وظروف عصرنا ، ونطرح منها ما لا ينفعنا ولا يرتقي بحياتنا المعاصرة نحو الأفضل.
       لقد آن لنا أن نرقى بأنفسنا وبتفكيرنا وعقولنا ، عن مجرد الترديد الببغائي لأقوال السلف أجل ! لقد أحسن السلف ، ولا شك ، في أقواله وأفعاله ، وفق معطيات الزمن الذي عاش فيه ، ولكن عصرنا غير عصره ، وظروف عيشنا اليوم غير ظروف عيشه بالأمس ، فلا يجوز ، بل وفي ذلك من دلالات الجمود والركود الذهني والفكري ، وتعطيل طاقات العقل البشري وإلغاء دوره الباني للحياة ، ما لا يليق بإنسانيتنا ، أن يبقى تفكيرنا كتفكير السلف ، ومفاهيمنا طبق الأصل لمفاهيمه ، رغم أننا نعيش في زمان متقدم لزمانه !!
       بل وأن هناك من السلف الصالح ذاته ، من أبى أن تكون الأجيال التالية له نسخة مكررة منه ، فقال مرشدا من حوله : علموا أبناءكم ولا تقسروهم على أخلاقكم ، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم!
       إننا نعيش يا سيدي في عصر يقول : أنا أفكر ، إذن أنا موجود ... بمعنى أني إن لم أفكر ، ولم استخدم عقلي في كل ما أراه أو أسمع أو أقرأ ، فأني رغم طول جسمي و عرضه غير موجود مع الناس والحياة ، أو أن وجودي ، لديهم ، من عدمه سيان. وأنا لا أريد لنفسي ولا أرتضي لها ولكم أن نكون ذلك الحاضر الغائب ، بل أفضل أن نكون ، ولا بد ، ذلك الغائب الحاضر !!


                                        زهران بن زاهر بن حمود الصارمي
                                                                        10/5/1999م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق