الأربعاء، 8 فبراير 2012



ديوان " مرافئ الشوق " ... و..  أشواق المرافئ
مقدمة
" الشعر سحرُ و تبيان و هندسة ...... و كاتب الشعر يحيا كالسلاطين "
هكذا عرف الشعر شاعرنا الواعد سعود ناصر الصقري في ديوانه
 " مرافئ الشوق " ، و هو تعريف للشعر قد نتفق معه في شطره الأول من حيث هو السحر في بيانه و حسه ، و هندسة رفيعة للحرف و الكلمة ، و لكنا لا نشاطره الرأي إطلاقاً في شطره الثاني ... فالشاعر أديب ، و الأديب – كما قيل عنه – في شرقنا يموت حياً و يحيا ميتاً !! أي أنه محكوم عليه بالموت في حياته ، و الحياة - ربما - في مماته ؛ فنحن أمة اشتهرت بتقديس الأموات و الموميات ، و قتل العبقريات في الحياة . فأية حياة سلطانية هذه التي يتحدث عنها شاعرنا في ظل ما يعانيه كل موهوب أو شاعر و أديب من عوامل الخيبة و الإحباط المتمثلة في عدم تقديره أو الاعتراف بمواهبه و إبداعاته من قبل المجتمع الذي يعيش فيه ؟! أي مجد ، و أية  غبطة و سعادة لملك متوج بأجمل التيجان و أثمنها و هو في صحراء قاحلة موحشة بلا إنسان !! فقيمة المرء و قيمة إبداعه لا تتبدى في ذاته بل في مقدار أثره و تأثيره في غيره من بني البشر ؛ فالإنسان بالأناس الذين حوله ، هم مرآته التي يرى فيها صورته الحقيقية ، بهم يعرف معنى الحياة و موقعه من الإعراب فيها . أما صمت القبور الذي يلف حياتنا الأدبية ، فلا أخالها مورثة في أعماقنا إلا الأسى و الثبور
" فالتبر كالترب ملقى في مناجمه ... و العود في أرضه شيء من الخشب "
و قد عرف شاعرنا الشعر قبل ذلك بقوله :-
"  الشعر أغنية في حسنها مزجت .. عقل المحب كمزج الماء بالطين  "
و هو تعريف يذكرنا بقول جبران خليل جبران : " الشعر أنشودة تتصاعد من جرح دام أو فم باسم " ؛ و لكني لو كنت مكان الشاعر لربأت عن تشبيه العلاقة بين الحسن و العقل و عالم الشعر أو الشعور بالحمأة ، أي بعلاقة الماء بالطين ، و لقلت على نفس الوزن و القافية :-
الشعر أغنية في لحنها مزجت ..... آه القلوب بأنفاس الرياحين .
فالشعر آهة حرّى ، إن تصاعد من عذابات الجراح ، و هو نافوجة العطر و أنفاس الأقاح ، إن بثه الشوق للأنس أو همس الليالي الملاح .
الشاعر المرهف الإحساس
" و في رياضك أبني للهوى أمماً .......... من القريض على حسي و إيحائي "
من يستطيع أن يفعل ذلك .. أن يبني للهوى أمماً من شعره و شعوره ، من حسه و إيحائه ، لا يمكن أن يكون إلاّ شاعراً مجيداً ، موهوباً و أصيلاً ؛ لأن تحريك المشاعر و توصيل الخواطر لا يستطيعه كل من اعتلى منبراً من المنابر ، بل هو فن رفيع لا يمتلك ناصيته إلا من كانت لديه الموهبة الفطرية ، و رهافة الحس و قوة الشخصية ، و توافر تلك السمات في شاعرنا نراه جلياً واضحاً في العديد من قصائده ، مثل  ( حنين للرجوع ، رقص على عزف الهوى ، و روعة الحب ) العذبة الإيقاع ، الشجية اللحن ، المفعمة بالأحاسيس الموّارة و العواطف المسفوحة على دروب الحياة . فهو مثلاً في قصيدته " حنين للرجوع " يناجي محبوبته بأعذب الكلمات ، و يؤكد لها كَلفَه بها و رسوخ حبها في قلبه رغم كل الأهوال أو تصاريف الزمان :-
أحبك رغم انحباس المطر ..... و رغم الرياح و رغم الضجر
أحبك رغم السنين الخوالي ..... و رغم الجفاف و موت الشجر
لأنك في القلب لحن الخلود ..... تملك حسـي كسـيف القـدر "
و  هي حال تذكرنا بقول قيس بن ذريح في ليلى :-
أقضّي نهاري بالحديث و بالمنى ...... و يجمعني و الهم بالليل جامـعُ
نهاري نهار الناس حتى إذا دجى ...... لي الليل هزتني إليك المضاجـعُ
فقد رسخت في القلب منكِ مودة ....... كما رسخت في الراحتين الأصابعُ
فكلا الشاعرين يسوق لمحبوبته من دلائل الوجد و ثبات المحبة ما أسعفته  الملَكة و القريحة وجاد به الخيال ليحظى عندها بالحظوة و الحضور و صدق المودة والشعور .
و يختم شاعرنا الصقري قصيدته هذه بقوله :-
" سوى الحب لا لا و لا لا و لا و لا... و لا ..لا سواك يزيل الكدر "
تلك اللاءات المتوالية التي تستدعي من ذاكرة الشعر الجاهلي مترادفات امرئ القيس الشهيرة في قصيدته
 " لمن طلل بين الجدية و الجبل " و قوله فيها :- "
ألا لا ألا لا ألا إلاّ لآلـئ لا بـث ....... و لا لا ألا إلاّ لآلئ من رحــــل
و في في وفي في ثم في في وفي وفي ... و في و جنتي سلمى أقبّل لم أمـل     و كاف و كفكاف و كفي بكفـها ...... و كاف كفوف الودق من كفها انهمـل  "
و هو استخدام طريف و ظريف للمفردات ، أبدع فيه الشاعران و أبانا من خلاله مدى قدراتهما اللغوية و ملكتهما الشعرية و البيانية التي لا تتأتى إلا لمن كان بينه وبين اللغة و الشعر دالة و صلة حميمة .

أزلية التجربة الوجودية و الوجدانية عند الإنسان

الإنسان ، في أي مكان و أي زمان ، هو الإنسان .. في همومه و عواطفه ، في تفاعله و انفعالاته  ، في  انعكاس الوجود من حوله بكل تفاصيله في عقله و شعوره و الوجدان .. فكل مفردات الحس و الشعور التي عرفها البشر منذ أن كان الوجود ، من حب و كره أو فتور ، من حزن أو سعادة و سرور ، من ألم أو شقاء و ترح  ، و من عشق و اشتياق و فرح ، من عذاب وأسى ، أو من لحظات الشجا و الشجن .. كل تلك المشاعر هي واحدة في وقعها على النفس البشرية ، و الذي يختلف فيها هو قدرة هذا الفرد أو ذاك في التعبير عنها و تصوير أثرها في نفسه أو نقلها إلى الأناس الآخرين ، بما لديه من ملكة أدبية و بلاغة لغوية .
لذا قلّ أن نقرأ لكاتب أو شاعر وأديب إلاّ و نلقى بين سطور ما كتبه ظلال و أطياف الكثير من الأدباء و المفكرين الذين سبقوه ، إلى الحد الذي يبدو فيه و كأنه قام بسرقة أدبية ، لا للفكرة فحسب ، بل و للعبارة أيضاً ... !  و لكن الحقيقة ، في كثير من الأحيان , هي أن الأرضية التي يقف عليها هؤلاء الكتاب و الشعراء ، على اختلاف مشاربهم و العصور ، واحدة مشتركة من حيث الإحساس و الشعور ، و من حيث أثر الفعل و رد الفعل في النفوس ، و من حيث و حدة المفردات و صور التعبير ، التي تحتم في نهاية المطاف تشابه العرض ـ إن لم نقل  تكرار التجربة الوجودية و الوجدانية في النفس البشرية .
و شاعرنا سعود الصقري لا يشذ عن هذه القاعدة ، بل يؤكدها في كثير من قصائده و أبياته . فهذا هو ، على سبيل المثال لا الحصر ، في قصيدته " ذات مساء " يذكرنا بالشاعر فاروق جويدة ، لا سيما في الأجواء الرومانسية التي خلقها في هيكل  القصيدة  ، و في الأنفاس الحرّى  التي بثها بين حنايا السطور .  فهو يقول بالشعر المقفى :-
" عشقتك صبحاً ندي الرحيق ......... رعيتك فجرا نقي الضياء "
و نفس البيت قاله من قبل ذلك الشاعر فاروق جويدة ، و لكن بالشعر الحر في قصيدة له بعنوان " أنتِ الحياة " ، في ديوانه " في عينيك عنواني " حيث جاء البيت على هذه الصورة :-
عشقتكِ صبحـاً
ندي  الرحيـق
رعيتـكِ فجـراً
نقـي الضيـاء
و يوماً صحوتُ
من الحلم طفـلا
رأيتك مثل جميع النساء  "" !!
كما أن شاعرنا الصقري يذكرنا في همسه و نجواه لحبيبته :-
" تعالي نكسر قيد السنين ...... ليبقى على معصميك الوفاء "
يذكرنا أيضاً بهمس و مناجاة كل من فاروق جويدة:-
تعالي أعانق
فيك الليالي
فلم يبق للحن
غير الصدى  "
و مناجاة أبي فراس الحمداني للحمامة الزائرة إياه في سجنه بالأسر :-
أقول وقد ناحت بقربي حمامة ......... أيا جارتا لو تشعرين بحالي
أيا جارتا ما أنصف الدهر بيننا ........ تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لدي ضعيفة .......... تردد في جسم يعذب بالي
إلى آخر تلك النجوى الشهيرة  .
و في قصيدة لشاعرنا بعنوان " لا للتمرد " يصف في مستهل أبياتها اللحظات التي تهيج فيها الذكريات , وهي عادة ما تكون اللحظات المتلفعة بالحزن و الأسى ، أو المفعمة  بالجزع و الفزع العارض أو الدفين  الذي يعتري النفس البشرية من آن لحين . :-
" و لقد ذكرتك و الدموع نوازل  ........ من فرط بُعدك يا سعاد تسمعي "
و هذا بيت يذكرنا بعنترة العبسي حين تناوشته السيوف و الرماح ، فلم يتذكر لحظتها إلا حبيبته عبيلة و ثغرها المتبسم الجميل  :-
" و لقد ذكرتكِ و الرماح نواهل مني ...... و بيض الهند تقطر من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها لمعـت ....... كبـارق ثغـرك المـتبسـم "
ذانكما البيتان اللذان ، عندما قرأهما أحد شعراء فرنسا الكبار قال :- هكذا الشعر ، و إلاّ فلا ."
و يمضي شاعرنا الصقري في استعراضه الممتع للمرافئ التي طافت بها سفين أشواقه ، فيطالعنا في قصيدته " مرثية شاعر " بتجربة في الحب يا طالما عاشها و عانى منها المحبون من قبلُ و من بعدُ ؛ و ما أكثر ما عبر الشعراء عنها و عما يلازمها من حكايات الدلال و العتاب ، و لحظات الهجر و الخصام و العَذاب ، التي تطغى في كثير من الأحيان ، بمرارتها ، على سويعات الصفاء العِذاب ... و يبدو أن شاعرنا قد كابد من هجر الأحبة الأمرّين ، و اكتوى كثيراً بنيران الجوى و الحنين ، إلى الحد الذي خالطه الشك في وجود الحب الصادق أو العاطفة الصافية في هذه الحياة ، فقرر بأن لا وجود للعواطف و المشاعر كغاية في زمن المصالح  و التناحر : -
" يقولون أن الحب نارٌ و لوعـةٌ ...... و حسبي بأن الحب هجر على هجر
و ما الحب في عهد المصالح غاية .... و إن أبدع العشاق في الشعر و النثر "
هنا ينسى شاعرنا في لحظة معاناته و الألم ، أو خيبته و الإحباط ، بأن الحب الحقيقي ليس له زمان و لا مكان , بل هو روح هائمة لا يعرف المرء متى تحط رحالها عنده ، و ملاك خالد الوجود يعيش في كل الأزمنة و الأمكنة ، لا تعرف نفسه شيئاً اسمه المصالح إلا مصلحته ، و لا كياناً إلا كيانه ، و لا وجوداً غير وجوده ، و متى ما خالطه شيء من غير ذلك , توارى طيفه الجميل و اختفى من حياتنا أو مات و انتهى . فهو غاية الغايات ، في حقيقته ، و أسمى الأمنيات ، و لكن دون بلوغه – هكذا تؤكد التجارب الإنسانية الألف -  خرط القتاد . فمن أراد عظيماً خاطر بعظيم ، كما يقال ؛ و الحب إحساس نبيل و عظيم ، لا يناله إلاّ من استعد أن يدفع الثمن أو يخاطر بعظيم من حياته .
ثم يستغرق طويلاً في بحران الشوق و مناجاته لحبيبته ، و تذكيرها بالأيام الجميلة التي قضياها معاً و كانا فيها كروح واحدة في جسدين ، علها ترق له و من هجرها تعود أو عن صدها تحيد ؛-
" فكنا على هذا سنين جميلة ...... كروحين في جسم و قلبين في صدر "
و لكن بلا جدوى ، فقد فرقتهما الأقدار ، و ذهب كل منهما إلى حال سبيله في الحياة ، هو مع ليلى غير ليلاه ، و هي مع قيس غيره ؛ فكان لابد له من التنفيس و البكاء لفرط ما به من شوق و حسرة و جوى :
" بكيت دما يوم الفراق و ليتني ..... أموت و لا تمضي سُليمى إلى غيري "
و هو بيت يذكرنا بقول يزيد بن معاوية في قصيدته : - " أراك طروباً والهاً كالمتيم "  على لسان حبيبته ، وهي تبرر لون الحناء في يدها رغم فراقه و بعده عنها ، فقالت له :-
" بكيت دماً يوم النوى فمسحته .... بكفي فاحمرت بناني من دمي "
لقد لاقى شاعرنا الصقري من هجر الأحبة و عنت الزمان و عناد الحبيب ، ما لاقاه من قبله الكثير من الشعراء ؛ فهاهو امرؤ القيس يعاتب في تذلل فاطمته : أفاطمُ مهلاً بعـد هذا التدلل ..... و إن كنت أزمعت صرمي فأجملي
و إن تك ساءتك مني أسية ..... فسلي ثيابي من ثيابك تنسـلي
أغرك مني أن حبك قاتلـي  ..... و أنك مهما تأمري القلب يفعل
و أنك قسمت الفؤاد فنصفه ..... قتيل و نصف بالحديد مكبــل "
و هذا الآخر أبو فراس الحمداني يصف شوقه و لوعته و انكسار كبريائه أمام حبيبته ، في قصيدته :-
" أراك عصي الدمع شيمتك الصبر ..... أما للهوى نهي عليك و لا أمر "
بلى أنا مشتاق و عندي لوعـة ........ و لكن مثلي لا يذاع له سر
إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى ..... و أضللت دمعاً من خلائقه الكبر
تكاد تضيء النار بين جوانحي.......... إذا هي أذكتها الصبابة و الفكر
معللتي بالوصل و الموت دونه ......... إذا مت ظمآناً فلا نزل القطر
وفيت و في بعض الوفاء مذلة ..... .. لفاتنة في الحي شيمتها الغدر "
و أجزم بأنه ليس في شعراء العربية  _ عدا ربما ، إبراهيم ناجي ، في قصيدته ، الأطلال _ من هو أروع من ابن زيدون في وصف وقع الهجر و أحزانه ، و نار الشوق و أشجانه ؛ فقد خلد ذلك في قصيدة تعد من عيون الشعر العربي  ، عندما بث حبيبته ولاّدة ابنة المستكفي أشواقه المحرقة ، و حنينه الغامر الجياش للقاها و الوصال ، و ذلك في قصيدته العصماء الشهيرة :- " أضحى التنائي " التي يقول في بعض أبياتها :
" أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ..... و ناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم و بنا فما ابتلت جوانحنا.......... شوقاً إليكم و لا جـفـت مآقينا
يكـاد حـين تناجيكم ضمائرنا ........ يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفـقـدكموا أيامنا فغدت......... سوداً و كانت بكم بيضاً ليالينا
إن كان قد عز في الدنيا اللقاء بكم ..... في موقف الحشر نلقاكم و يكفينا "
و لنا  أن نقف هنا وقفة تأملية حول هذه المعاناة الوجدانية الخالدة . فصحيح أن الهجر في الحب ، أو الخصام ، نار و عذاب و سقام ؛ و صحيح أيضاً أن الصدود و قلة الوصال تمضُّ النفس و تعتصر القلوب ، و لكن ذلك في الشعر هو المطلوب !!
فرب ضارة نافعة .. فلولا عزف الرياح بالأغصان ، لما سمعنا ، من حفيف أوراق الشجر ، تلك السيمفونية العذبة الألحان ، و لولا السحب الحاجبة لضوء الشمس... لولا هزيم الرعد ، و لولا البرق الذي يخطف الأبصار ، ما جاءنا الغيث ،  و لا نزلت أمطار ... كما أنه لولا النار ما كان الذهب !!
 كذلك هو الحال في الحب ... لولا الهجر وأشجانه ، و الفراق و أحزانه ، و البعاد و آلامه ، لولا تلك المعاناة النفسية النفيسة!! و ذلك الأسى و الوجع الفريد !! لما عرف الإنسان معنى التسامي و التماهي في الأثير ، و لما عرف السمو بنفسه عن عالم الدنيا الحقير .
أجل ! لولا تلك اللحظات الموجعة البديعة !! و ليالي  السهد المترعة  بالحزن والتأمل ؛ لما عرف الإنسان ، و لما عبر أدباؤه و شعراؤه عن أعظم و أسمى و أعذب عاطفة إنسانية ، ألا وهي " الشوق " ؛  ذلك الشعور الرائع النبيل الذي تسمو به النفوس ، و يمنح الأرواح  القدرة على الإنعتاق و الانطلاق للقاء الأحبة و عناقهم أينما كانوا من دنيا الوجود ، مهما تناءت بينهم المسافات أو باعدتهم السنون ... لولا تلك النار المقدسة التي تشب بين الحنايا و الضلوع ، و لولا عذابها العذب و الممتع !!... لما جادت قرائح الشعراء بتلك القصائد الوجدانية الغراء الخالدة التي نتغنى بها اليوم و نستريح في أفيائها و نتخذ منها خير جليس و أنيس في كل جلسة لنا أو خلوة و سمر .
إذن لولا مكابدة العشاق لحرقة الأشواق ، و معاناتهم آلام الهجر و الفراق .. لولا ذلك الاحتراق و العصر و الانسحاق ، لما شربنا تلك السلافة الأثيرية من كؤوس الشعراء و الأدباء ، و لكانت حياتنا رتيبة مملة يلفها الخواء ,, و ..
" كذا قضت الأيام ما بين أهلها ...... مصائب قوم عند قوم فوائد " !!!

الجمال ذلك الفردوس المحرَّم
و للجمال و ما يبعثه في النفس البشرية من أنس و بهجة ، و من سرور و طرب , و ما يثيره في الوجدان الإنساني من حب وهيام ومن عشق ولهب ؛ هذا الجمال كان له مع الشعراء و أصحاب الأحاسيس المرهفة ، عبر الزمن ، صحبة أثيرية و حكايات رومانسية حيناً ، و تراجيدية أحياناً أخر ، خلدوها في أعمالهم الأدبية ، النثرية منها و الشعرية ، وصارت للأجيال التالية معيناً لا ينضب لأحاديث الأنس و أمسيات السمر .
على أن للجمال البشري إشكالية أو مفارقة عجيبة ، و قف الإنسان إزاءها ، بكل أطيافه العقائدية و الدينية عبر التاريخ ، حائراً بل و عاجزاً عن فهمها أولاً و عن هضمها ثانياً ، و عن كيفية حلها بالسبل المنطقية المقنعة  لعقله و لنفسه ثالثاً.
 و تتمثل هذه الإشكالية أو المفارقة ، في النزوع الفطري و الغريزي لدى كل إنسان نحو الإعجاب بالجمال و تعشقه له ، فالقلب  ، بطبعه ، " يعشق كل جميل " كما قالت أم كلثوم ؛ ذاك من جهة ، يقابلها ، في الجهة الأخرى ، القيود و الحدود التي فرضتها الأديان و الأعراف بالمنع و التحريم لهذا الإعجاب أو التعشق للجمال ، صوناً للحرمات و الأعراض و حرصاً على عدم الانتهاك أو التعدي لحقوق الآخرين .
و لكن أنّى للمرء أن يهرب من جلده ؟! أنّى له أن يتخلص من طبيعته و طبعه ؟! كيف له أن يرى ما يخلب اللب و يأسر العين و القلب ، دون أن يحس بذلك أو يشعر ؟! كيف له أن يقع صريعاً للجمال ، و لا يسمح له حتى بالتلفت يميناً أو شمال ؟! ... إنه لأمر كبير و كثير على النفس البشرية إلى الحد الذي جعل أحد الشعراء يقول فيه مخاطباً خالق الإنسان و الأديان :-
" إلهي ليس للعشاق ذنب ...... لا و لا أهل الصبابة مجرمونا
أتخلق كل ذي وجه جميل ..... به تسبي عقول الناظـرينـا
و تأمرنا بغض الطرف عنه ... كأنك ما خلقـت لنا عـيونا
أجل! كيف له أن يعاني الاحتراق و حرقة الأشواق دون أن يسمح له بالأنين و لا حتى ببوح الجوى و الحنين ؟! كيف للظامئ الصدي ألآّ يروي ظمأه مما يراه أمامه من الماء العذب الزلال ؟! كيف للنحلة أن تمتنع عن عشق الزهور و من امتصاص الشهد من مباسمها و الثغور ؟! كيف للعين ألآّ تنبهر عند اكتحالها بشعاع الشمس أو ضوء القمر ؟!
إزاء هذه المفارقة الممضة عبر الكثير من الشعراء بشكل مباشر و غير مباشر عن تذمرهم و عدم قدرتهم على استيعاب أو هضم هذه الإشكالية ، و كان أحد هؤلاء الشعراء الجسورون الهاني أبو الحسن  أبو نواس حين قال مخاطباً ربه :-
" إلهي خلقت الجمال لنا فتنة .... و قلت لنا يا عباد اتقوا
أنت الجميل تحب الجمال ....... فكيف عبادك لا يعشق "
و مثل ذلك قال شاعرنا الصقري ، و لكنه أشار لمحاً لا تصريحاً لتلك الحقيقة ، رغم انك تحس من نسق العبارة و قوة التعبير ذلك الاندفاع النزق و الانجراف الأعمى لذلك الجمال الآسر الذي رآه  فيقول مخاطباً آسرته :-
" وجدتكِ بين الملا حلوة ..... تثيرين قلبي بهمس العيون
فربي جميل يحب الجمال ... و أنتِ الجمال كما قد يكون "
و إني لأجزم بأن شاعرنا آثر اصطناع الرزانة و الاحتشام في القول ، تقيةً و مراعاة للواقع الاجتماعي المؤطَّر _ العلاقات ، و المحدود _ الحريات ، بما فيها حرية الشعور و التعبير . فالإنسان في شرخ الصبا و عنفوان الشباب يتصف ، في علاقاته و رغائبه ، و إلى حد بعيد ، بالجسارة و الجرأة التي تصل ، في كثير من الأحيان ، حدود الطيش و التهور ؛ فهو إن أعجب بشيء و ملك عليه قلبه ، سعى إليه سعياً مجنوناً إلى أن يناله أو يهلك دونه . فتلك الغادة التي لوت عنق شاعرنا و ملأت عينه و شدت انتباهه من بين كل الملا بجمالها الفاتن الأخاذ ، لا أخال إلاّ أنها أثارت في قلبه وعقله همس الجنون ، لا همس العيون فحسب !!
فهو رغم هذه العفة المتبدية ، إلا أنه في نهاية التحليل من فئة الشعراء ، و الشعراء ، بفطرتهم و رهافة حسهم ، قوم يَعشقون و يُعشقون ، يألفون و يؤلفون ؛ لأنهم يعزفون على الأوتار التي تطرب الأسماع و تبهج الأرواح و القلوب ، فيميل إليهم كل ذي حس فتون ، و تنجذب النساء نحوهم ، لعواطفهن الجياشة و رقة الأحاسيس التي يمتزن بها ، انجذاب الفراش للهشيم !! عندها لا يملك الشعراء أمرهم إلا من أتى الله بقلب سليم !! فيقع المحظور ، و عند وقوعه لابد للشاعر من تصوير اللحظة و التعبير عنها ، و إلا انتفت عنه صفة الشعر و الشعور ، فينشد كل قيس أعذب الأشعار في ليلاه ، و يتغنى كل جميل بلبناه ، وهنا تثور ثائرة المجتمع و يرى في ذلك التشبيب و الغزل خروجاً على الأعراف و القيم ، فَيَصِمُ الشعراءَ بالزندقة و قلة الحياء حيناً ، أو بالغلواء و الهرطقة أحياناً أخر. و تلك هي الإشكالية التي يعيشها الشعراء والأدباء ، لاسيما في شرقنا المحافظ . فإن أفصح الشاعر عما يحس به أو يعانيه ، و عبر عن تجربته الوجدانية أو تجربة غيره الحياتية ، وصف بالزنديق و الهرطوق ، و إن هو آثر الكبت و الصمت ، خان رسالته في الحياة ، و خرج من الفردوس الذي إليه يهفو و يتوق ، فردوس التعبير عن خلجات النفس والضمير ، و بوح الروح و الشعور .
و ليس أدل على ما ذهبنا إليه من هذين البيتين اللذين قالهما شاعرنا الصقري :
" سبحان من خلق الجمال .... بشخص فاتنة لعـوب
ملكت صـبابة مهجتـي ...... فيها أذوب و لا أتوب "
فانظر إلى هذه الفاتنة اللعوب التي أغرته بالذوبان فيها ، و ملكت عليه مهجته و أمره إلى حد إعلانه الصريح بعدم التوبة منها أو عنها مهما كلفته من جهد أو من مشقة وعَنَت . و مثل ذلك قال أحد الشعراء ، بشكل ، ربما ، أكثر سفوراً و وضوحاً :-
" أستغفر الله إلاّ من محبتكـم ... فإنها حسناتي يـوم ألقـاهُ
فإن زعمتم بأن الحب معصية ... فالحب أحسن ما يُعصى به اللهُ "
فماذا يا ترى يمكن أن تقول المجتمعات المحافظة عن صاحب قول كهذا ؟! و لكن هذا القول يبقى هو الحقيقة بالنسبة للشاعر ، و بالتالي فليس له ، و ليس عليه سوى قولها و تقريرها ، رضي الناس بها أم كرهوا , فلا يقلل من شأنها ، في نظره شيئا ، اعترف بها هذا الفرد أو ذاك من بني الإنسان أم لم يعترف , طالما أنها لا تقرر سوى ما هو واقع أو محسوس و ملموس في دنيا المشاعر و الشعور .
الشعراء و لحظات الوداع و الرحيل
ما من لحظات في الحياة ، حياة المحبين بشكل أخص ، أشد وقعاً , و أعمق أثراً في النفس من لحظات الوداع  ؛؛ عندما تأزف ساعة الفراق ، و ينعق غراب البين بالرحيل ، عندها ينهتك المستور , و يفتضح المكنون في الصدور ، و لا يملك إلا البوح بما يعتلج بين الحنايا و الضمير ، من لاعج الحب و الحزن الكبير .. آهة حرّى تصّاعد من شغاف القلوب ، أو دمعاً مدراراً ينهلّ من المآقي كالدر الرطيب ... لحظات كم خلدها الشعراء في قصيدهم ، وصوروا انفعالاتها و الأحاسيس  الجياشة التي تعتري الإنسان المفارق فيها .. تلك اللحظات التي تختزل الزمان و المكان ، و تتكثف فيها مشاعر الإنسان ، لما تثيره في الأنفس من الهواجس و الظنون حول ما يمكن أن يكون من بعد الفراق ، هل التلاقي من بعد ذلك و العناق ، أم هو الفراق الأبدي الذي لا لقاء بعده ؟ فلا غروَ إن ذابت مهج المحبين و سالت عواطفهم و افتضح سرهم لحظة الوداع و الرحيل ، و لا عجب إن عبر الشعراء عن ذلك الجزع بأبيات تسيل رقة و عذوبة ؛ فمن كعب بن زهير :-
" ودع هريرة إن الركب مرتحل .... و هل تطيق وداعاً أيها الرجل ؟ "
إلى عبد اللطيف البغدادي :-
" استودع الله في بغداد لي قمراً .... بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه
ودعته وبودي لـو يودعنـي ....... صفو الحياة و إني لا أودعـه
و كم تشبث بي يوم الرحيل ضحى ... وأدمعي مستهلات و أدمعـه
لا أكذب الله ثوب العذر منخرق ...... مني بفرقته لكـن أرقعــه "
إلى أبي الطيب المتنبي :-
" تنفستْ عن وفاء غير منصدع ...... يوم الرحيل و شِعبٍ غير ملتئم
قبلتها و دموعي مزج أدمعهـا ....... و قبلتني على خوفٍ فماً لفم
قد ذقتُ ماء حياةٍ من مقبلهـا ....... لو صاب ترباً لأحيا سالف الأمم "
إلى قوله الرائع أيضاً :-
" يا من يعز علينا أن نفارقهم ......... وجداننا كل شيء بعدكم عدم "
و مثل ذلك و على نهج أولئك الشعراء قال شاعرنا الصقري في قصيدته "رحيل " بعد معاتبته محبوبته لدى مجيئها لوداعه ؛-
" و قائلة سأرحل .. قلت توبي ... أهذا عـهـد حـب للحبيب
فردّت و الدموع أتت كنهر ..... على الخدين في شـكل مريب
و أيم الله ـ أنك في حشايا ..... فأنت بمهجتي عطري و طيبي
إلى أن يقول على لسانها :-
نعم أهواك لكن ذي ظروفي ...... فما أقساك من زمـن رتيب
فإن حـكم الزمان لنا ببين ...... فما الذكرى تغيب عن القلوب
و لكني هنا أرى أن شاعرنا قد جانبه التوفيق ، إلى حد ما ؛ في تصوير الوقع الصادق للحظات الفراق ، و ذلك لما ظهر في أبياته من صنعة و تكلف .
فهو ، عندما أراد وصف لوعة حبيبته عند الوداع ، شبه الدموع التي تذرفها بالنهر , و هي مبالغة تبعث لدى قارئها الابتسام ، أكثر مما تبعثه فيه من  التعاطف و الانسجام ، فالدمع مهما تعاظم همْله لا يسير كالنهر، بل ينهمر ، ربما ، كشآبيب المطر . و لعل الوصف النموذجي لهذه الحالة ، هو ما قاله الشاعر  :-
" فأمطرت لؤلؤاً من نرجس و سقت .... ورداً وعضت على العنّاب بالبرد "
و أكثر من ذلك أن شاعرنا أوحى بالشك و الريبة في صدق تلك المشاعر و الدموع ، وأوحى بقوله " في شكل مريب "  استحضار صورة الدمع في عين التماسيح المخادعة الخبيثة ، فليته قال مثلاً :-
فردت و الدموع تسيل منها ... على الخدين كالدر الرطيب .. أو على الخدين حرّى كاللهيب  ؛؛؛  لكان ذلك أوقع في النفس و أبلغ ... كما أن قوله :- " لكن ذي ظروفي " فيه الكثير من بساطة التعبير و التسطيح اللغوي ، إلى الحد الذي تصل به مستوى اللهجة العامية أو الحديث اليومي المبتذل ، وهو أمر لا يليق بالشعر البليغ و الفصيح على الوجه الأخص . و كذلك و صفه للزمن ، في هذه اللحظات المحزنات ، بالرتابة بدلا من الكآبة ، فيه شيء من عدم التوفيق ، لأن الزمن ينبغي و صفه بما توحي به لحظاته من سعادة أومن حزن و ألم ، أو من رتابة و سأم . و لحظات الفراق هي لحظات الاشتعال و الاحتراق ، لا لحظات البلادة أو السآمة و الملل . فليته قال إذن :- فما أقساك من زمن كئيب ، لكان ذلك أصدق و أروع .
 و لكن شاعرنا ، في الجانب الآخر ، أصاب و أبدع أيما إبداع بقوله :-
" فإن حكم الزمان لنا ببين .... فما الذكرى تغيب عن القلوب "
فالذكرى ، كما قيل عنها ، ناقوس يدق في عالم النسيان .

لغز الوجود والعدم
ما أصدق أبو الطيب المتنبي حين قال :-
" ذو العقل يشقى في النعيم بعقله .... وأخو الجهالة في الشقاوة ينعم "
هذا العقل الذي لا يرتاح و لا يريح ، الدائم البحث و التنقيب ، المفجر لعواصف الفكر و زعازع  التفكير ، الفضولي الطبع ، الجائع النهم للعلم و المعرفة ، الرافض بفطرته و تكوينه للمسلَّمات ، أو ما تسمى بالثوابت و البديهيات ، العصي الاقتناع بالأجوبة الجاهزة المحنطة عن أي سؤال تطرحه عليه الحياة ، هذا العقل كلما كبر في الإنسان ، كبرت اهتماماته و كثرت معها همومه ، وحوّل بالتالي حياة صاحبه ، و إن يكن في بلهنية من العيش و النعيم ، إلى حياة شقية متعبة أشبه ما تكون ، في مضاضتها و أثرها على النفس و الجسم ،  بالجحيم .  
و ليس في التجربة الإنسانية الواعية أسئلة أشد إرهاقاً و تحد لقدرات العقل البشري من تلك الأسئلة السرمدية الخالدة ، الطارحة لذاتها ، عن أحجية الحياة و الموت ، أو طلسم الوجود و العدم . فالإنسان يجيء إلى هذه الحياة غير مستشار و لا مخير ، و يمضي في رحلة العمر عبر سهولها و جبالها و الوهاد ، في غالب الأحيان ، بغير تخطيط مسبق منه أو تدبير ، ثم يخرج منها بعد حين مغادراً إلى المجهول ، بغير رضاء منه أو استئذان و قبول ... يجيء هكذا و يمضي دون أن يعرف ، على وجه التحديد ، الغاية أو القصد من كل ذلك العبث الوجودي فيه ، و يبقى في أعماقه ، كما قال شاعرنا الصقري :-
" يغص بذاك السؤال الفريد  ... لماذا خلقت بهذا الوجود ؟ "
و كما قال من قبله الكثير من الشعراء الآخرين ، كإيليا أبو ماضي :-
" لست أدري أين أمضي و لا من أين أتيتُ
                                        غير أني وجدت قدامي طريقاً فمشيتُ "
و عمر الخيام الذي قال  في إحدى رباعياته :-
" ما أفاد الفلك الدوار ربحاً من حياتي
لا ولا زاد جمالاً أو جلالا بوفاتـــي
أنا لم أعرف مدى عمري في دار الشتات
ما هو المقصود فيها من حياتي ومماتي "
و يبدو أن الكل سيرحل دون أن يعثر على ذلك الجواب الذي يشفي الغليل ، و يُرضي الفضول ، لأن من رحلوا ما عاد منهم أحد ليخبر باليقين ، ومن بقوا ظل السؤال رفيقهم طول السنين بلا مجيب .

لكل عالم هفوة و لكل شاعر نَبْوَة
و قد حوى روض هذا الديوان على بعض الأعشاب الشاذة المشوهة ، المتطفلة على دوحه وزهوره ، و كان الجميل بصاحب هذا الروض أن يقوم  بتنقيته باقتلاع كل ما يضر ببيئته ، أو يشوه من جماله و بهائه . فقد ورد في ثنايا العديد من أبيات قصيده ، كلمات و تعابير قلقة في مواضعها ، جافة في طبعها ، ميتة الإحساس و العاطفة . مثال ذلك ما جاء في قصيدته " ذات مساء " و قوله :-
" فهيا دعينا على كل حال ..... نرى الشمس نبتاً نرى الظل ماء "
فلنتأمل في هذه الـ { على كل حال } كم فيها من اختزال للمشاعر ، و كم فيها من غلبة جملة النثر المحققة على روح الشعر المحلقة  . و مثال ذلك أيضاً ما جاء في قصيدته "دعوة و ألم " و قوله :-
" لأغطس فوق الهوى تارة ...... و حيناً أسافر في مقلتيك "
فليته قال هنا :- " لأغرق " بدلاً من " لأغطس " ؛ لأن الغرق أمر لا إرادي عكس الغطس الذي يتم بمحض الإرادة ، و الحب كما هو معروف عنه أمر عاطفي و
و جداني ، لا إرادة للإنسان فيه .، فكما قال المتنبي :- " لهوى النفوس سريرة لا تعلم " . و في نفس القصيدة يقول أيضاً :-
" تركت المقاهي و ضوضاءها ..... و جئت بقلبي و حبي إليك "
فانظر إلى هذه " المقاهي " كم هي نابية في موضوعها ، نائية عن الموضوع . فمذ متى كانت المقاهي موئلاً للعشق و العاشقين ، أو منتدى للأدباء و المتأدبين ، لاسيما في بلادنا الحديثة العهد بمثل هذه الأماكن ؛ و لو قال :- تركت الربوع أو الديار و ضوضاءها ، أو الصحاب و ضوضاءهم ، لكان ذلك ، في رأيي ، أوقع و أبلغ في وصف ما هو فيه من شوق ولهفة للقاء . و مثل ذلك ما جاء في قصيدته " اعتراف " حين قال :-
" زيحي اللثام فلم أهواكِ ....... و ترفعي ما شئت في ممشاكِ "
فكلمة " زيحي " هنا فيها من السطحية و العامية و الثقل ما لا يليق بالشعر الفصيح ، و كان الأفضل و الأجمل هنا هو استخدام كلمة " أمِطي أو ميطي اللثام " المشهورة الجارية ، في بداهة ، على كل لسان ، عند الحديث عن إماطة الخمار أو اللثام . و كذلك ما جاء في قصيدته " مرثية شاعر " و قوله فيها :-
" و أرفعها فوق الثريا مفاخراً   .... و ألعق من شهد المحبة و الطهر "
و في قصيدته " رحلة الحنين " ، قال أيضاً :-
" طاوعته شوقاً لألعق في الهوى ..... شهد المحبة مالئاً أنهاري "
فتأمل في هذا " اللعق " المقزز ؛  الموحي ، بداهة ، بخاصية الحشرات والدود ، كم أضر بمعنى البيت ، و شوه ما فيه من بلاغة و جمال . فالمحبة " لا تُلعق " لعق الدود للأوضار و الأدران ، بل تُحتسى احتساء الخمر عند الشارب النشوان.
هذه الكلمات الناتئة التي ذكرتها على سبيل المثال لا الحصر ، توحي بأن شاعرنا الصقري لم يبذل شيئا من عناء و عناية زهير ابن أبي سلمى ، صاحب الحوليات ، الذي كان يقول في كل حول قصيدة واحدة ، يظل يعيد فيها و يزيد ، يصحح و ينقح ، يشطب ، يشذب و يهذب ، في كلماتها و المعاني ، طوال اثني عشر شهراً , بغية الوصول بها إلى قمة القريض ، ثم يلقى بها الشعراء في سوق عكاظ  ، ويلقيها على مسامعهم درراً تبهر بلألائها  ، و بليغ حكمتها ، حتى الفاروق عمر ابن الخطاب رضي الله عنه .   
 و ذلك أمر لا نشك في أن شاعرنا الموهوب ، سيعمل جاهداً على تلافيه في دواوين أشعاره القادمة ، إن شاء الله . فليس العبرة في حجم الدواوين ، أوفي عدد القصائد التي تحتويها ، بل العبرة في نوعيتها ، جزالة لفظ ، و خيالاً مجنحاً ، و عمق معنى ، و رصانة تعبير ، و رهافة حس . فعمرو ابن كلثوم يكاد أنه لم يقل أكثر من قصيدة واحدة ؛ و مع ذلك خلده التاريخ الأدبي كواحد من فحول الشعراء و أصحاب المعلقات السبع . فلا يضير الشعر أو الشاعر ، المراجعة و التنقيح ، و إزالة كل ما هو غث و قبيح من المفردات و التعبير ، و إنما يضيرهما الارتجال ، و إلقاء القول على عواهنه ، بإهمال و ابتذال .

و هكذا - في الختام - أراد شاعرنا الصقري أن يعبر عن سفين أشواقه التي طافت به المرافئ ، فإذا بتلك المرافئ تحمّل سفينه أشواقها الأزلية و عشقها  السرمدي الخالد لكل مرتاديها و من دفعت به إلى شواطئها زوابع الفكر أو نسائم الشعر ، فجاء الديوان محملاً بالكنوز ، مثقلاً بتجارب الإنسان و آثار الزمن في مشاعره و الوجدان على مر العصور .

زهران زاهر حمود الصارمي  26/1/2005


   

     


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق