السبت، 9 يونيو 2012


الإرهاصات العمالية محك الطلائع الوطنية
في نهاية شهر مايو الماضي قام العاملون بحقول النفط باعتصام عن العمل ، بعد أن سدت في وجوههم كل سبل التفاهم ، و ضاقت بهم الأرض بما رحبت ، و لم يكن لمطالباتهم و صرخاتهم أي صدى ، أو أذن صاغية من أية جهة من الجهات المعنية بالشركات العاملين بها ، أو بالجهات الحكومية المفترض أن تكون العين الرقيبة و اليد المدافعة عنهم والحامية لحقوقهم في أي موقع يعملون به  ، وفق مرئيات الأنظمة و الضوابط التي شرعتها هي ذاتها في قانون العمل العماني ، الذي يتوجب ، بحكم التشريع و قوة القانون ، تطبيقه و الالتزام به ، و تنفيذه من قبل كل الشركات و أرباب العمل الخاص و العام .
و لقد كانت المطالب المتفق عليها بين جميع العاملين بتلك الشركات و القطاعات النفطية ،  حسبما أوردتها جريدة عمان في عددها الصادر بتاريخ 30 مايو 2012 ،  هي كالتالي : -
1)  المساواة بين القطاعين في صندوق التقاعد .
2)   مساواة غلاء المعيشة بين القطاعين .
3)  علاوة الخطر لا تقل عن مئة ريال
4)   تحديد العلاوة السنوية أن لا تقل عن 6%
5)   مكافأة ما بعد الخدمة لكل سنة راتب .
6)  تحديد ساعات العمل 8 ساعات ، و في رمضان 6 ساعات ، و تحسب الساعات الإضافية بعد الدوام الرسمي كأجر إضافي
7)  تقليص ساعات العمل في الصيف
8)  البطاقة الصحية بحيث يكون التأمين الصحي شاملاً مع العائلة
9)  النظر في إيقاف الراتب بعد قعود الموظف بسبب المرض .
10) عدم التمييز بين الموظفين من ناحية الأكل .
11) النظر في العقوبات المرورية ، و تخفيض قيمة استخراج رخصة تنمية نفط عمان
12) التدريب و التعليم و التدرج الوظيفي و الإجادة .
13) احتساب الإجازات الرسمية و المناسبات .
14) تحديد الراتب الأساسي ، بحيث لا يقل عن 400 ريال مع فارق السنوات
15) مكافأة لكل سنة راتب  أساسي " البونس "
16)  النقل و الإجراءات التعسفية
17) استخدام الموظفين كصفقات تجارية بين المقاولين ، و استئجار العمال بدون عقود
و هي مطالب ،  فيها من الحق و العدل و المنطق ، ما لا يخفى على كل ذي حس وطني أو بصر و بصيرة ؛ لاسيما تلك المتصلة بالمساواة في حقوق المواطنة بين القطاعين ، و في تدني الأجور و العلاوات ، و في احتساب ساعات العمل ، بما يتناسب و المناسبات العامة و أيام الهجير . بل و إن بعض تلك المطالب لا تمس العاملين بالقطاع الخاص فحسب ، و إنما تتعداها لتشمل العاملين بالقطاع الحكومي أيضاً ، كالمكافأة الزرية لما بعد التقاعد  ، و كالعلاوة السنوية التي لا تزيد عن عشرة ريالات لدى 90% من الموظفين بالمؤسسات الحكومية ، مقابل الارتفاع الصاروخي الشهري لأسعار شتى متطلبات الحياة  ... أما لدى من في نفوسهم مرض ، و على أعينهم غشاوة الظلم و الاستبداد ، فهي ( أي تلك المطالب )  خروج على الطاعة و عصيان غير قانوني يستوجب الفصل و الطرد و العقاب لمن يرفعها أو ينادي بها من العمال .
و بذكاء و دهاء يعرف من أين تؤكل الكتف ، أو ضرب اللوز باللوز – كما يقال في الأثر – و لمعرفتها المسبقة بالمعركة الحامية الوطيس التي تدور حالياً بين بعض أعضاء مجلس الشورى على تقديم فروض الولاء و الطاعة ، لكسب التزكية المثلى التي ستوصلهم للوزارة و التوزير ؛ انتدبت الحكومة ممثلين منه لحل المشكلة و التفاوض مع العمال لإنهاء الإضراب و العودة للعمل ، فكان لها ما شاءت و شاءت الشركات ، حين سقط أولئك الأعضاء المنتدبين في أول امتحان لأصالة مواقفهم ، و مدى مصداقيتهم في تبني هموم الشعب الذي انتخبهم للإنابة عنه في التعبير عن آماله وطموحاته و الدفاع عن حقوقه المشروعة ؛ سقطوا بتحولهم المزري من ممثلين للشعب ، إلى ناطقين باسم الشركات الجشعة الناهبة لخيرات بلادنا ، و المحامين المدافعين عنها في وجه المواطنين من العمال المضربين .
و كانت نتيجة تلك الوساطة أن مُرغ بأنوف العاملين في التراب ، و أُجبر كل منهم ،  بلي ذراعه و إمساكه من اليد التي تؤلمه ، ليحافظ على لقمة عيش أسرته المعفرة بالرمل و الزيوت ، أن يوقع على هذا التعهد المهين و المشين . الذي نصه يقول :-
 ” أتعهد أنا الموقع أدناه ، و بعد إقراري بدخولي في إضراب غير قانوني بتاريخ 27/5/2012م  ، حتى هذا التاريخ ، و أعلم بأن هذا التصرف قد كبد الشركة خسائر مالية كبيرة ، و خالف قوانين الأمن و السلامة ، معرضاً مواقع العمل لمخاطر كبيرة .
أتعهد بأنني لن أكرر مثل هذا التصرف مستقبلاً ، و أن ألتزم بكافة قوانين الشركة ، و أن أتبع تعليمات مسؤلي المباشر ، و في حالة مخالفتي لما ورد في هذا التعهد ، فإن للشركة الحق في إنهاء خدماتي وفق القانون .
و هذا اعتذار عن توقفي عن العمل و الإضراب ، و إنني أقر بخطئي و أطلب منكم السماح  "  (* )
و هذه الصيغة المهينة التي يندى لها جبين كل حر غيور ، تعني فيما تعنيه ، تمكين الشركات قانونياً من هضمها لحقوق العاملين و ممارسة أعمال السخرة و المهانة فيهم ، دون أي خوف  من وازع أو رادع أو رقيب ... فقد حصلت ، رسمياً ،  وفق هذا التعهد على صك الإدانة ، الذي يعطيها الحق و المشروعية للضرب ، مستقبلاً  ، بيد من حديد على كل من تسول له نفسه برفع الصوت حول أي مطلب أو مظلمة . كما أن هذا التعهد و القبول به على هذا النحو المزري معناه الوأد المسبق لأي حراك عمالي في مستقبل الأيام ، بقصد المطالبة بالتحسين و الإصلاح لأحوالهم و أوضاع عملهم السيئة . الأمر الذي سيكرس هيمنة الشركات و يقوي من شوكتها في مواجهة العاملين في قطاعاتها و ممارسة شتى صنوف الظلم و الإذلال فيهم ؛ .... فانطبق القول على وفد الشورى ، مع الأسف الشديد : -
" إن من ترجو به دفع البلاء ... سوف يأتيك البلاء من قبله "
 هؤلاء العمال ، الذين لولا جهدهم و عرقهم و تضحياتهم بالعمل في أقسى عوامل الطقس و المناخ ، هجيره و الزمهرير ، و في أخطر البيئات على الحياة ... لولا هؤلاء العمال ،  لما كانت لعمان هذه النهضة و هذا الخير و العمران ؛.... فأن يجازَوا جزاء سنمار ، على كل ما قدموه و ما زالوا يقدمونه من كدح في سبيل هذا الوطن و استخراج خيراته من مجاهيل الأرض ؛ فيه كل الحيف و الإجحاف في حقوقهم الإنسانية ....أن تتعفر وجوههم وتحترق أجسادهم بلفح لهيب الشمس و المصانع ... أن يعيشوا في بيئات يترصدهم الموت بها من كل جانب ، من أجل استخراج لآلئ الأرض و ذهبها الأسود ، ثم تأتي ثلة من المترفين وتصادر كل تلك الثروات الثمينة لتنعم بها لوحدها و تزيد من ترفها و تخمتها و مجونها ، دون أن يكون لؤلئك الكادحين الذين أفنوا زهرة عمرهم في استخراجها من مناجمها الرهيبة ،  نصيب منها سوى الزوان و الحصرم ...أن لا يحصدوا من معاناتهم و شقائهم  سوى لقمة العيش التي تبقيهم على قيد الحياة اللازم لاستمرارهم في حمل النير و دفع عجلة الإنتاج الثقيلة ، هو عين الظلم و القهر و الاستغلال  .
فلماذا تكمم أفواههم ، و لماذا لا يلقون سوى الأذن الصماء ، عندما يطفح الكيل لديهم ، و يرفعون صوتهم صارخين من ألم المعانة و نفاد الصبر ؟! و لسان حالهم يقول :-
" و من البلية أن شاة عندنا ..... بيدي قرناها و غيري يحلب "
و هنا تقع مسؤولية تاريخية كبرى على الاتحاد العام لعمال السلطنة ، و على كل النقابات العمالية في هذا الوطن ، الذي هو و خيراته ملك للجميع ، لا لأحد بعينه ، أو فئة دون سواها ، تتمثل في ضرورة عدم الاستسلام أو رفع الراية البيضاء  ، بسبب هذه المواقف المتشنجة من الشركات ، أو بسبب هذه الممالأة و المواقف المخيبة للآمال من أعضاء مجلس الشورى ... بل على ذلك الاتحاد و تلك النقابات أن يمضوا قدما في رفعهم الصوت عاليا بمطالبهم المشروعة ، التي تقرها كل المواثيق و الأعراف الدولية ،  دون أن يفت في عضدهم كل محاولات الطمس و الترهيب ، واضعين نصب أعينهم أنه في نهاية الأمر ما ضاع حق وراءه مطالب ، و أن الليل مهما اشتد سواده أو طال أمده ، لابد و أن  ينتهي بفجر أبلج و صباح وضاح . و إن الله مع الصابرين .


زهران زاهر الصارمي
نقال 99206716
7/6/2011


(* ) المصدر ( جريدة الوطن الصادرة بتاريخ 3 يونيو 2012  ص 4)



  

السبت، 26 مايو 2012

أراجيف القوى المضادة للثورات العربية المعاصرة




أراجيف القوى المضادة للثورات العربية المعاصرة
تزايد النواح و الصياح و الترحم ، من بعض الأقلام ، في الفترة الأخيرة على عميد الأنظمة العربية الوطنية ، و قلعة الصمود و النضال و الممانعة ، الواقف ، بشعاراته الثورية و القومية الطنانة الرنانة ،  في وجه الأطماع الاستعمارية و الصهيونية بالمنطقة ؛ النظام السوري الجمهوري – الأوتوقراطي الشقيق ، و تعالت أصوات القوى المضادة للحراك الجماهيري في الوطن السوري ، بالشجب و التشنيع و إلصاق شتى أنواع التهم به ، و بالندب و الرثاء على نظام الأسد المغدور ، إلى حد يوحي للعرب بضرورة التعاون و التكاتف معه في وأد هذه الإنتفاضة الشعبية و إطفاء لهيبها المتصاعد ، مخافة أن يعضوا على أصابعهم ساعة لات مندم  ، و يرْثونه على لسان الفتى العربي الذي قال  :-
" أضاعوني و أي فتى أضاعوا .... ليوم كريهة و سداد ثغر "
أي نعم ، هو نظام أثبت أنه ليوم كريهة في المجزرة التي قام بها ضد مواطنيه في حماة بحلب في العام 1982 ، و التي راح ضحيتها حسب أقل التقديرات 10 ألاف قتيل ، و 30 ألفاً بين جريح و مفقود 20 ألف سجين ، و 100 ألف نازح  ؛ و كان من قبل ذلك في العام  1976 قد سد ثغرة في مخيم تل الزعتر للاجئين الفلسطينيين بلبنان ، فأباد منهم ، بمباركة أمريكية و إسرائيلية ، و بالتعاون مع الميليشيات اللبنانية اليمينية 3000 ثلاثة آلاف فلسطيني معظمهم من النساء و الأطفال ،،،  ثم هو الآن لم يأل جهداً في الذود عن عرشه بشتى أنواع الأسلحة الثقيلة التي لديه ، فسحق 12 ألفاً ممن يحملون اليافطات المناوئة له و يهتفون في الشوارع بسقوطه ، و ترك أضعاف هذا العدد من الجرحى و السجناء و المشردين ممن تجرأ على قول " لا " في وجهه من أبناء الشعب الذي يحكمه  ..... و لكنه نظام رغم كل الرهانات ، و كل الشعارات و العنتريات الخطابية ، لم يقتل ذبابة إسرائيلية في هضبة الجولان المحتلة منذ الخامس من حزيران 1967 أي منذ 45 عاماً ؛ بل و إن إسرائيل ، في استهانة فاضحة و مُذِلة ، تصول و تجول و تعربد في سماء و أرض و بحر هذا البلد و تستبيح حرماته ، في ظل هذا النظام ، دونما أدنى وازع أو رادع ؛  فدمرت ،  في الخامس من أيلول 2007 ، و في وضح النهار في دير الزور منشآت ما يسمى بالمفاعل النووي السوري ، ثم ، في العام التالي 2008 ، اغتالت المسؤول عنه ، العميد محمد سليمان ، بفرقة كوماندوس إسرائيلية ، نزلت و كأنها تتفسح في مدينة طرسوس الساحلية ، و من بعده ،  في 9 إبريل 2011 ، اغتالت في قلب دمشق ، القائد العسكري  لحزب الله عماد مغنية ، دون أن يحرك هذا النظام ساكناً ، سوى الشجب و الوعيد الذي يذكرنا بقول جرير في الفرزدق :-
" زعم الفرزدق أن سيقتل مربعاً ..... أبشر بطول سلامة يا مربع "
        هو نظام ليس فيه ما يميزه عن غيره من الأنظمة العربية الفاسدة المهترئة ، سوى استغلاله لوقوعه في محاذاة الحدود مع إسرائيل ، لتبرير قمعه و سحقه لكل الشرفاء و الأحرار الساعين للعدالة و الحرية ، برفعه شعار " لا صوت يعلو على صوت المعركة و الحرب القومية المقدسة " الوهمية ، التي يدعي الإعداد لخوضها  منذ قرابة النصف قرن من الزمن ؛ و بالتالي تحويل الشعب السوري بين سجين و مهاجر و طريد و شحاذ أو مرتش ، أو مداهن أو مرتزق ، أو مرتبط طبقياً بأركان النظام الفاسد .
الأسباب الكامنة خلف الهجمة الإعلامية
على الثورات العربية المعاصرة
فلماذا إذاً كل هذه الهجمة الإعلامية الشرسة على الثورات العربية المعاصرة بوجه عام ، و الثورة السورية بشكل خاص  ؟ ما الذي يحرك هذه الأبواق ليعلو صوتها فوق صوت الحق و العقل و المنطق ، إلى الحد الذي بات معه بعض الكتاب يرى بأن ما يحدث في أرضنا العربية هو ليس بالثورة ، بل بالمؤامرة ، و أن ما أطلق عليه العالم بالثورة العربية ، بالتوازي مع الثورات العالمية الأخرى  ، و بالربيع العربي ، هو ليس إلا خريفاً عربياً و ربيعاً إسرائيلياً ؟!
إن ما يقف خلف كل ذلك الصراخ ، و هذا الطعن و التشكيك ،  هو القانون الأزلي القائل بأنه لكل فعل رد فعل يوازيه في القوة ويعاكسه في الاتجاه ؛ فلكل ثورة ،  ثورة مضادة ، و لكل حراك بشري في اتجاه ، حراك بشري مضاد في الاتجاه الآخر . كما أن لكل حكم أو نظام مهما كان نوعه و فساده ، بطانته و أنصاره و أعوانه ، بعضهم ممن يتقاسمون معه المائدة ، و بعضهم ممن يعيشون على فتاتها ؛ و طبيعي أن يرى هؤلاء القوم أن مصيرهم مرتبط بمصير النظام المرتبطين به ، وجوداً أو زوالاً ، انتصاراً أو انهزاما ؛ فهم و إياه في خندق واحد . فيطلقون النار و السهام على كل من يقترب من حماه ، فهي بالنسبة إليهم معركة موت أو حياة .... و من يقرأ التاريخ  ، يرى ترجمة هذا القول في كل المحطات و المنعطفات الكبرى في التاريخ البشري ، بما في ذلك تاريخ الرسالات السماوية، و ما لاقته من عنت المتنفذين في المجتمعات التي نزلت بها ، إلى مستوى الحرق و الصلب للمبشرين بها ، كما حدث لإبراهيم و المسيح عليهما السلام ، و مستوى الطرد و القتال ، كما حدث  للإسلام ، من غزوات الدفاع و الفتح  ، في زمن الرسول محمد ( ص) ، إلى حروب الردة ، التي خاضها أبوكر الصديق و خالد ابن الوليد .
إن كلمة  " الثورة " تعني في القاموس السياسي و الفكري و التاريخي البشري ، التغيير الجذري للواقع السياسي و الاقتصادي و الاجتماعي و الثقافي الفاسد  لأي بلد تقع فيه ؛ و إحلالها بقيم ثورية مغايرة ، متجددة و متطورة ، تنقل المجتمع إلى وضع أفضل و أروع مما كان عليه سابقاً ... و الثورة انفجار كانفجار البركان ، له عوامله الطبيعية ، و له لحظة انفجاره التي لا تستطيع قوة في الأرض رده أو إجهاضه ، عند اكتمال عوامله . كذلك هي الثورات في المجتمعات البشرية ، لا تحدث إلا عندما يبلغ السيل الزبى ، و تتساوى في أنظار القاطنين بهذا البلد أو ذاك عناصر الموت و الحياة ، بل و قد ترجح في نفوسهم عناصر الموت ليصبح راحة لهم من المذلة التي يعانونها ، فيكون لسان حالهم عندها كما قال المتنبي :-
إذا لم يكن من الموت بد  .... فمن العار أن تموت جبانا .
فينطلق المارد من قمقمه و في نفسه تجول مقولة  :-
فإما حياة تسر الصديق ..... و إما ممات يغيض العدى  ، الذين حرموه نعمة الحياة الحرة الآمنة الكريمة . فيكون ما يكون من لحظة انفلات العقل من عقاله ، و الحال الذي يترجم القول العربي الشهير:- بأن يوم المظلوم أشد على الظالم من يوم الظالم على المظلوم ، و يغدو كموج تسونامي الذي يكتسح كل شيء أمامه فلا يبقي و لا يذر . و تلك هي الحال التي ولدت كل الثورات العالمية الكبرى ، كالفرنسية و الروسية و الصينية و الإيرانية  ، و ما أعقبها من فوضى عارمة ، ثم من هدوء و التقاط للأنفاس ، و ترتيب للأوراق ، ثم من بناء و تشييد حضاري و إنساني رفيع على أنقاض العروش المتهاوية .
و الثورات العربية المعاصرة لا تشذ ، في مسيرتها ،عن هذه القاعدة و عن هذا السيناريو التاريخي ، سبباً وغاية و نتيجة .
فما تنفثه من سموم ، و ترجف به أقلام و عناصر الطابور الخامس عن هذه الثورات الأصيلة ، من أنها ليست أكثر من مؤامرة يراد بها زعزعة  الأمن و الاستقرار في المنطقة ، و أن قواها المحركة تفتقر للرؤية و التجربة السياسية ...و أن من يقوم بها هم فقط من الرعاع و الجياع ، و أن نتيجتها لن تكون سوى انفلات الأمن و الفوضى ، و أن وراءها القوى الخارجية الطامعة ، كأميركا و تركيا و فرنسا و إسرائيل.... كل تلك الأقوال المغرضة الهزيلة تنضوي تحت شعارات الحملة المضادة لهذه الثورات ، و التي من الممكن أن نوجز أبعادها و مضامينها في النقاط التالية :-
الأولى :- هي دعوة تلك الأبواق للشعوب العربية الثائرة بأن
" تصبر على مجانينها ، الطغاة ، لئلا يأتيها من هو أجن منهم " ! ، فليس من داع للثورة عليهم أو إبعادهم عن كراسي عروشهم . بل الخير في استمرارهم ، كما هم عليه !!
الثانية :-  هي تزكيتها لتلك الأنظمة الفاسدة و المترهلة ، بتصويرها بأنها لديها من الخبرة السياسية في قيادة البلاد ، ما لا و لن ، تستطيع امتلاكه  القيادات الشعبية و الشبابية الثائرة  ، فليس من داع إذاً لتغييرها ، و إنما الواجب يقتضي الحفاظ عليها و عدم المساس بالمراكز التي تتبوأها  كوادرها في الدولة !!
أما الحديث عن تلك الثورات على أنها " مؤامرة " ، فهو حديث مجَّته الأسماع ، فما عاد بمستساغ و لا معقول أو مقبول ، من كل ذي عقل و سمع و بصر ، فكيف للشعوب أن تتآمر على أوطانها ، و على نفسها و تموت من اجل الغريب ؟!   نعم ، من الممكن للشعوب أن تتخاذل أو تتكاسل عن الفعل الثوري فترة من الزمن تطول أو تقصر ، و لكنها ، أبداً ، لا تخون ذاتها و أوطانها ، مهما تبدت الصورة غير ذلك عند اختلاف الرأي ، الذي لا يفسد في نهاية الأمر ودها لقضية العدالة و الحرية ... كما أن الأنظمة الفاسدة هي آخر من يحق له الحديث عن نظرية المؤامرة ، لأنها هي ذاتها معدن الدسائس و التآمر و النميمة و المكر الذي حكمت به شعوبها عقوداً من الزمن.
و أما عن الاصطياد في المياه العكرة ، المتمثل في طبيعة موقف القوى الخارجية الداعم لهذه الثورات ، و أشارات الاستفهام و الغمز و اللمز الذي  يثار حولها هنا و هناك ؛ فخير من يجيب عليه هو ونستون تشرشل حين قال :- في قاموس العلاقات السياسية ؛ ليست هناك صداقات دائمة ، و لا عداوات دائمة ، بل هناك مصالح دائمة" فما يحدد موقف هذه القوى من أية قوى متصارعة ، لاسيما في منطقة الثروات الطبيعية الإستراتيجية ،  هو ما يحدده اتجاه البوصلة ، فهي دائما مع من ترى بأن كفته مائلة أو ستميل حتما في الصراع . و لقد أدركت هذه القوى و أيقنت ، بفطنتها و خبرتها الاستعمارية الطويلة ، بأفول نجم هذه الأنظمة المتهالكة ، و عدم قدرتها على الاستمرار و الوقوف في وجه شعوبها الغاضبة و طوفانها القادم  ، فكان منطق العقل و المصلحة ، يحتم عليها أن تمد يدها لهذه الثورات ، كضربة استباقية – إذا جاز التعبير - ، أو كتقديم للجميل الذي قد تضمن به شيئاً من عرفان تلك الثورات المنتصرة لا محالة ، علها تجد لها موطئ قدم في بلدانها بعد حين من الانتصار . و هنا تتقاطع المصالح ، مصلحة الثورات في الاستفادة من كل ما من شأنه ضمان غلبتها و الانتصار ، سيما و أنها عزلاء في صراعها مع   النظام ، الذي وضعها بين مطرقة قواه القمعية الشرسة  ، و سندان الاستعانة حتى بالشيطان لتحقيق هدفها في التخلص من ربقته و نيل العدالة و الحرية... تتقاطع هذه المصلحة  العليا للثورة ، مع أجندة تلك القوى الخارجية في البحث عن موقع لها و لمصالحها بتلك البلدان الثائرة ، بأقل الخسائر الممكنة . علماً بأن هذه أو تلك من الدول " الاستعمارية الطامعة " كانت بالأمس القريب هي الراعية لتلك الأنظمة المستبدة ، و الحامية لعروش حكامها و عربدتهم  الفاضحة .... و لكنها فلسفة
" السياسة الاستعمارية " التي عبر عن جوهرها أحد القادة الألمان
بقوله :- " إن السياسة تستغل كافة أشكال الخيانة ، و لكنها لا تشرف الخونة " ، فلا ترعوي تلك الدول أن تقلب الطاولة على رؤوس أصحابها ، بعد أن تستغل خيانة و عمالة أي حاكم أو نظام بأي شكل من الأشكال في بسط السيطرة و نهب الثروات ، ثم ما تلبث أن ترمي به رمي النواة من التمرة ، بمجرد أن ترى عجزه عن مواكبة الأحداث و الوقوف على قدميه في وجه المتغيرات و الإعصار .
فأي تكسير لمجاديف تلك الثورات و شعوبها  أكثر من تلك الأراجيف  التي تنشر و تشاع ضدها هنا و هناك ..... و لكن تبقى تلك الأراجيف مجرد زبد كالزبد الطافي على سطح البحر ، يصدق فيها قوله تعالى " أما الزبد فيذهب جفاء ، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض  " . فليس في تلك الأنظمة التي قامت بها تلك الثورات ما يرتجى نفعه ، و لو كان فيها شيء من ذلك لفعلته في أضعاف المدة التي نفع بها حكم محمد مهاتير لماليزيا ، فصيَّر منها نمراً من النمور الآسيوية . و لقد قامت النهضة العلمية في كل من مصر و اليابان ، مثلاً ، في فترة واحدة ، و أين اليوم مصر من اليابان ؟! فهذه أنتجت كل عوامل البؤس و التخلف لشعبها ، رغم نِيلها العظيم و دخل السويس الكبير ؛ و تلك صارت علَماً من أعلام الحضارة المعاصرة لإبداعاتها الفذة في كل مجال من مجالات الحياة ، رغم فقرها في الثروات المادية و وقوعها في منطقة الزلازل و البراكين.
فأي مبرر ، بعد ذلك كله ، يطرحه المتباكون على تلك الأنظمة العقيمة التي ثارت عليها شعوبها بعد طول معاناة و صبر و مذلة  ؟!



                           زهران بن زاهر الصارمي
                      هاتف : 99206716
abu-shamsan@windowslive.com                  

7/5/ 2012

الأربعاء، 8 فبراير 2012


هذا الوطن و أزمة المهنموقف وقضية


رغم نار الغلاء التي تلتهم من حياتنا الأخضر و اليابس " كما تلتهم معاشات الموظفين ميزانية الدولة !! " ؛ قررت أن أقوم بعملية ترميم لمنزلي الذي لم تلمسه ، يد الترميم منذ قرابة العشرين عاماً ، قررت ذلك بعد حوار دار بيني و صديق حميم كانت خلاصته أن من لا ينتهز الفرصة اليوم  للقيام بأي مشروع للصيانة و البناء ، فلن يستطيعه الفرد العادي بكل تأكيد في السنوات القادمة ، فظاهرة الغلاء تسير من سيء لأسوء ، و ليس هناك فيما يبدو أية بارقة أمل في الحد منها أو سقف تقف عند حده ، طالما أن الخصم فيها هو الحَكَم!! ؛ فكيس الإسمنت صار اليوم أضعاف قيمته قبل سنوات بسيطة ، و طن الحديد أصبحت قيمته ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل ثلاث سنوات ، فقلت ألحق على نفسي اليوم بتحويشة العمر ، قبل أن يجتاح البلاد تسونامي المشاريع السياحية الكبرى القادمة بعد حين، و قمت من فوري بالبحث عن الفئات و العناصر المختلفة المختصة بعملية البناء و الترميم ؛ و لم أنجح في العثور على مقاول أو عامل ماهر إلا بعد مضي قرابة الشهر من البحث المضني ، و جاء الذي يسمى بالعامل الماهر ، الوافد من شرقي آسيا بالطبع ، و بدأت معه المفاوضات الأشبه بمفاوضات الحل النهائي لقضية الشرق الأوسط :- " فهذا العمل لا بأس سيقوم  به ، و ذاك لا ، لا يمكنه القيام به ؛ لأنه يحتاج لوقت ، و هو مشغول جداً ،  لديه أكثر من اتفاقية عمل في أكثر من مكان "، و تمضي المفاوضات معه على هذا المنوال ، مع قيامه بتحديد المبلغ الذي يريد مطمئنا إلى عدم قدرتي على مجادلته ناهيك عن الرفض ، إذ لم يكن أمامي من حل سوى الرضوخ و الاستسلام لطلباته؛ لأن الراغبين في خدماته أمثالي من الغلابى واقفين بالطابور !... ثم جاءت الحاجة للنجار لإصلاح بعض الأبواب المخلوعة من مواقعها ، و أخذت أطوف على المناجر سائلاً راجياً متوسلاً أصحاب المهنة من العمالة الوافدة علني أجد من يشفق علي و على أبنائي من زمهرير الشتاء و قارس البرد فيتلطف بالقبول للمجيء معي لتركيب تلك الأبواب و إصلاح بعض ما بها من عطب ، و بعد لأي و جهد جهيد ترفق آخر النجارين بالولاية بالموافقة على تأدية المطلوب , لكنه إمعانا في النكاية اشترط أيضاً أن يكون العمل ليلا من السابعة مساء فصاعدا و ليس خلال ساعات النهار، أيضاً بحجة زحمة الأعمال عنده ، و حدد هو الآخر المبلغ الذي أراده دون قبول أدنى مساومة أو نقاش ، لأنه المتكرم و انا عنده الشحات ، و لا يصح أن يكون الشحات متشرطاً !! و ما كان لي مرة أخرى  سوى القبول و الرضاء ، كقبول المؤمن بالقضاء و القدر ، و كذلك كانت مأساتي و المعاناة ، إن لم  تكن أنكى و أشد ، مع الحداد و فني الكهرباء ومع العاملين بورشات الألمنيوم ؛ و وجدتني اصرخ من أعماقي في غيض و غضب و انكسار ؛ أين أبناء الوطن ؟! بل أين بُناته ؟! و وجدتني أيضاً في الوقت ذاته أردد في غير ما شعور مع جبران خليل جبران :" ويل لأمة تأكل مما لا تزرع ، و تلبس مما لا تنسج ، و تشرب مما لا تعصر " و أضفت عليه ؛ و ويل لوطن يهمش أبناءه و يعتمد في بنائه و خدماته على الوافد الغريب .
إنه لهوان يندى له الجبين، و مذلة تعصر في الحلق العلقم و تبعث من الصدر الأنين ، أن يطلب المواطن بٍحُرِّ ماله خدمة من الخدمات المهنية فلا يجدها إلا بعد أن تضيق به الدنيا بما رحبت ، و عند من ؟ عند الوافد الغريب فحسب . في الوقت الذي تمتلئ فيه شوارعنا بمفتولي العضلات من شبابنا العماني الباحث عن العمل ، لاسيما الأفواج الألفية من أشباه المتعلمين الذين تلفظهم المدارس الثانوية على أرصفة المدن وأزقة الحارات كل عام ؛ و تساءلت في حيرة و ألم ، ترى أين دور وزارة القوى العاملة في حل هذه المشكلة الوطنية ؟ لماذا لا تقوم بدورها في تهيئة شبابنا و تأهيلهم للقيام بمثل هذه المهن ؟ أين معاهد التأهيل المهني عن هذه الفئات ؟  إلى متى نبقى معتمدين على غير أبناء هذا الوطن في القيام بالأعمال الحرفية و المهنية و الفنية التي لا يستغني عنها أي مواطن أو مقيم على أرض أي بلد من البلدان  ؟ ... و إني لأعلم بأني سأتهم بالتحامل على وزارة القوى العاملة ، و يرد علي ، و في تهكم ربما :-" بل أين أنت من معرفة منجزات هذه الوزارة و دورها الفعال في هذا الإطار ، فهناك العديد من المعاهد المهنية التي تم إقامتها و نشرها في مناطق عديدة من السلطنة ، يرقى عددها إلى الخمسة أو الستة معاهد ، كان آخرها افتتاح مركز شناص للتدريب المهني بتكلفة 1.6 مليون ريال و بطاقة استيعابية تصل إلى 360 متدرباً ، و هناك القطاع الخاص الملزم بنسب معينة بتعمين الوظائف بعد تأهيله و تدريبه أعدادا من الفئات الباحثة عن العمل " ..... و إني لمعترف بكل ذلك و مقدر له ، بل كنت وما زلت من المؤيدين و المدافعين عن سلسلة القوانين و الإجراءات التنظيمية التي أصدرها ذات يوم ليس بالبعيد معالي الشيخ عامر بن شوين  الحوسني الخاصة بتعمين عدد من الوظائف و الأعمال في هذا البلد ، و لكن مع كل تلك الجهود المشكورة بلا شك ، علينا أن نمتلك الجرأة و الشجاعة الأدبية بالاعتراف بأن هناك ندرة ترقى إلى مستوى الأزمة في فرص العمل ، و شح في الكادر المهني بشكل عام و الوطني منه بشكل خاص ؛ و أن الجهود المبذولة حتى الآن غير كافية ولا ترقى إلى مستوى وضع الحلول الناجعة للخروج من هذه الأزمة المتفاقمة؛ فرغم مرور سبعة و ثلاثين عاما من عمر النهضة المباركة ، و رغم التوجيهات السامية لحضرة صاحب الجلالة و نطقه السامي منذ بداية عهده الميمون بأن هدف التنمية الوطنية في هذا البلد هو الإنسان العماني ، إذ بدونه و بدون تأهيله التأهيل العلمي و العملي السليم  لن تكون هناك نهضة أو تنمية حقيقية للبلاد ؛ نقول برغم كل ذلك فإن ما نشهده من تدخل لوضع قطار التنمية في مساره الصحيح في هذا الإطار ، إطار تأهيل القوى البشرية المحلية ، دون مستوى الطموح ،  بدليل ما نراه طافياً على السطح من جبل الجليد ، فالحكم على الأمور بخواتيمها في نهاية التحليل ، و واقع الحال بوجه عام لا يوحي  بالنتائج المأمولة من تلك الجهود المبذولة ، فأين مخرجات تلك المعاهد المهنية ؟!  أين أثرها و تأثيرها في الواقع المعاش ؟! أين ورش العمل الحرفية التي يتوافر بها العامل العماني الماهر و القادر على تلبية الاحتياج المجتمعي المتنامي لشتى المهارات و المهن ؟ فالمعطيات على الأرض تشير إلى بقاء الأمور ، في هذا الإطار ، بلا تطور أو تغير يذكر . فالكادر العماني غير موجود و الكادر الوافد محدود ، و بقيت بالتالي معاناة المواطن المحتاج لهذه الخدمات المهنية في ترد و ازدياد .
أما الحل الذي نراه ، بناءاً على فهمنا للأولويات التنموية في هذا الوطن ، فهي إعطاء الأولوية لهذا الجانب ، جانب التأهيل المهني . و ذلك بخلق و إنشاء معهد أو مركز مهني مكتمل التجهيز و متكامل التخصصات في كل منطقة ، إن لم يكن في كل ولاية من ولايات السلطنة . تستقطب فيها مخرجات الثانوية التي لم يسعفها الحظ في تكملة الدراسة أو الحصول على عمل بالإضافة لاستقطابها للمتسربين من المدارس في مستوياتها المختلفة ، ثم يقدم لهم ، أو للمتميزين الطموحين منهم على الأقل ،  من بعد التخرج الدعم المادي و المعنوي المخطط و المممنهج  لبدء مشوار الحياة العملي و المهني الذي يستفيدون منه في بناء حياتهم و قيام أسرهم ، كما يفيدون به في الوقت ذاته مجتمعهم بتوفير الخدمات الضرورية له . بذلك نوفر العدد اللامحدود من فرص العمل للباحثين عنه ، و نوفر الكادر الذي تتطلبه عمليات التنمية في سوق العمل ، و نقضي على الهاجس الذي يقض مضجع كل وطني غيور ، هاجس القنبلة الموقوتة المتشكلة تراكمياً و بشكل سنوي من مشردي الثانوية العامة الباحثين عن لقمة العيش في أزقة الحارات و شوارع المدن . فليتحول المجتمع العاطل الخامل إلى مجتمع فاعل وعامر بشتى المهارات المهنية و الفنية . و لنخلق في كل قرية إن لم نقل في كل بيت نواة من المهرة الفنيين والمهنيين ما يحقق بها المجتمع شيئاً من الاكتفاء الذاتي لتلك الخدمات الحيوية ؛ و هذا أمر ممكن و ممكن جداً لدى القطاع العام و الخاص إذا وجد الإحساس الصادق بحجم المعاناة و الحاجة الوطنية الملحة لتوافر هذه الخدمات الضرورية ، و من ثم النية المخلصة لوضع التدخلات المناسبة لسد هذا النقص الفاضح فيها . و هي خطوة ، لما لها من أهمية و من أثر إيجابي على مسار الحياة في شتى المناحي و المجالات الاقتصادية و الاجتماعية و الأمنية ، تضعها في أعلى سلم الأولويات . فلا بد للجهات المعنية بها من الالتفات إليها و إعطائها الاهتمام التي تستحقه لعلاجها و درأ تداعياتها السلبية . فبلادنا ليست بالكبيرة ، مقارنة بالعديد من البلدان ، و خيراتها وفيرة ، و كل ما يلزمها هو إعادة ترتيب سلم الأولويات في الصرف و الإنفاق !! .. أما الذريعة المتداولة في تبرير هذا العجز في القوى المهنية و الفنية القائل بترفع القوى البشرية الوطنية عن هذه المهن و استنكافها عن مزاولتها رغم التدريب الذي تتلقاه ؛ فمردود عليها في بساطة شديدة و هي أنه لو كان هناك توجيه و دعم صادق و حقيقي يستشعر منه المتدرب الفائدة و الجدوى الحقيقية ، لما فضل التشرد و التصعلك و خواء البطون على إقامة مشروعه الحلم ؛ فليس هناك من يرفس المائدة و هو جائع ظامئ إلا أن يكون به مس أو جنون ؛ و لا أخال الآلاف الذين يحكى عن تأهيلهم بهم كلهم هذا الخبال أو القصور في التفكير !!!  
إن طرح الرؤى المتصلة بالعملية التنموية و ترقيتها في أي بلد من البلدان ، و أخذ يد الشعوب فيها نحو العمل بها و تبنيها ، هي مهمة من صميم عمل الحكومات و واجب من واجباتها الوطنية إزاء شعوبها المسئولة عنها ؛ أما ترك مثل هذه الأمور الحيوية تجري في أعنتها ؛ أو الدعوة لإغفالها أو الإغفاء عنها فلن يحل المشكلة ، بل و لن يزيد الطين سوى بلة .    

                                                      زهران زاهر الصارمي
                                               ولاية إزكي – قرية إمطي
16/2/2008


المثقف بين سندان الطموح و مطرقة الواقع
" و يسقط عنك يا حلم القناع "عنوان كتيب للشيخ الأديب أحمد بن علي الدرعي ....  و صيغة العنوان ، بدايةً ، تذكرنا بعناوين قصائد الشاعر فاروق جويدة المميزة ، المكون أغلبها من جمل شاعرية ، موحية بعيدة الدلالات ، تشد المرء إليها شداً ، و تغريه لقراءتها .
من مثل " عندما يرحل الرفاق " " السفر في الليالي المظلمة "
" في عينيك .. عنواني " و " الحب في الزمن الحزين " و
" الصبح حلمٌ لا يجيء " و " وطني لا يسمع أحزاني " و " كانت لنا أوطان " و " كانت لنا أحلام " و  "و تسقط بيننا الأيام "
غير أن الشاعر فاروق له رأي مخالف و نظرة مغايرة للمعاناة الناجمة عن سهر الليالي و التعب الذي نلقاه في مسيرة الحياة ، و عن الزمن الذي ،  في سوق نخاسته ، نبيع أحلامنا بلا ثمن :-
" تعبٌ يعلمنا ... بأن العَدْوَ ... خلف الحلم
يحيي النبض في القلب العليلْ
سهرٌ يعلمنا ... بأن الدفءَ ... في قمم الجبالِ
و ليس في السهل الذليلْ
غير أن أسوء ما تعلمناه ... في زمن النخاسةِ
أن نبيعَ الحلمَ ... بالثمن الهزيلْ "
بيد أن الأديبين التقيا ، في نهاية المطاف ، حول متلازمة الإحساس عند المثقف الرسولي المعاصر ، المتمثل في شعوره بعبثية الحياة المتجسدة في حتمية المصير البائس للأحلام الإنسانية السامية النبيلة ، لاسيما في زمن السماسرة و أسواق النخاسة .  فالدرعي سقطت عن أحلامه الأقنعة ، بعد اصطدامها بصخرة الواقع الصلد المحطم لكل حلم أو طموح ؛ و أظهرت له بالتجربة الملموسة ، كم كان بجماليونياً ، بل و كم كان بطلاً دونكيشوتياً أحياناً أيضاً !!
و جويدة اكتشف حقيقة الزمن الرديء الذي نعيش فيه ، زمن الفساد و الكساد الذي صارت البضاعة الرائجة فيه ، هو بيع الضمائر و المتاجرة  بآمال و أحلام الإنسانية المعذبة المسحوقة   .
على أن من يستطرد في قراءة هذا الكتيب ، سيجد نفسه بعد حين أمام تراجيديا مصطفى لطفي المنفلوطي في كتابه " العبرات " ، و أمام رومانسية " الأجنحة المتكسرة " لجبران خليل جبران ، فذاك ما توحي به تعابيره التي منها على سبيل المثال لا الحصر :-
"و شاءت الأقدار أن يكون ذلك المكان مقبرته الدائمة لحلمه الضائع و " ذهب إلى مكانه المعتاد مراراً و تكراراً ... إنه المكان الذي لاح فيه حلمه من بعيد ..فلم يجد سوى أطلاله غارقة في صمتها الدائم  .. فتشبث بكل أمل يوصله إليه "  
ثم هو بعد حين يطل علينا من بين السطور ، و مما وراء الكلمات  و أبعاد الجمل ، كواحد من المناضلين الثوريين للقرن العشرين . كجمال عبد الناصر ، أو جيفارا ، و كاسترو ، أو نيلسن مانديلا و ماو ... ذاك ما نلمحه في تعابيره المتناثرة في ثنايا الكتيب ، مثل : "ستة عشر عاماً من الكفاح و النضال "  , " وتكون بداية لمرحلة جديدة ، يبتدئ فيها بخوض معركة حياته العملية "  و " تسير القافلة بهم ...... إلى أن تصل بهم أمام بناء شامخ تعلوه راية ترفرف للمجد و الوطنية " .
تلك التعابير وغيرها تنم عن روح وطنية وثابة ، و مشاعر جياشة ، و طموحات سامقة عِراض ، و عن احتراق و انفعال داخلي عنيف ، تمور به موراً نفس هذا  الكاتب الأديب ، لم يتمكن من كبتها،  أو كبح جماحها ، فخرجت كألسنة اللهب ، أو كالحمم المتطايرة التي ينفثها البركان قبيل انفجاره الكبير .
على أن هذا اللهب المتوقد ، و هذا الوهج الساطع ، و يا للعجب ، سرعان ما يخبو و ينطفئ ، بل و يستحيل رماداً كابياً ، أو برداً و صقيعاً يشل الحركة في الأوصال و تتجمد فيه الحياة ، و غدا الانكسار ، انكسار الأماني و الأحلام النرجسية ، و تداعياتها المحبطة للنفس ، المثبطة للهمم ، هي السائدة في باقي النص ، إلى حد استشعار القارئ بأن الكاتب يغرق ، و يختنق بطوفان الأسى و أمواج الحزن و الألم المُمِض ... فها هو يصف لحظة فقده للحلم بقوله : " صدمة ... مأساة ... انتكاسة مشاعر ، كانت تسبح في فضاء الأحلام يوماً ... كانت بمثابة حقنة قاتلة ... و ليتها كانت قاتلة ... لكن وقعها بداخله زاد العذاب و الألم و الضياع ... و استولت عليه قوى الظلام في عينيه .. ثم تاه كل شيء بداخله في شوارع اليأس الظالم ." .....
 و يصل إلى منتهى الضعف و الضراعة بقوله : " حلمي الصغير ... أرجوك ... لقد سرق ضياعك الأمل من وجودي ...كل شيء اسودَّ في مقلتي الحالمة .... فابق و لا تتركني للعنة الحلم ... لا تتركني أبحر وحيداً في بحور الأماني الخالدة ... لا تترك اليأس يسحقني ... فيا أيتها الهموم خذي جثماني القتيل ، ودعي حلمي الصغير يحييني .... "
أي حلم هذا الذي يستحق فقدانه ، كل هذا الإنكسار المعنوي و الانهيار النفسي ، فالبطل هو ليس الذي لا يكبو أو ينهزم ، بل البطل هو من يستطيع النهوض من كبوته و يواصل المشوار ، و يحيل ، من ثَمَّ ، هزيمته إلى انتصار ...  و الأكثر من ذلك أنه يصف حلمه المفقود "بالصغير" ، فكيف به لو كان ذلك الحلم كبيراً ، أو عظيماً ، يستوجب المخاطرة بعظيم ؟!!
هو حال يستدعي من الذاكرة الموقف المعاكس لهذا الموقف ؛ إنه موقف أبي القاسم الشابي ، و هو يصارع الموت الحتمي القادم نحوه بخطى وئيدة ثقيلة  من داء السرطان العضال ، حين قال :-
" سأعيش رغم الداء و الأعداء
                                كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
                              بالسحب و الأمطار و الأنواء
لا أعبأ الظل الثقيل و لا أرى
                                  ما في قرار الهوة السوداء
لا أعرف الشكوى الذليلة و البكاء
                               و ضراعة الأطفال و الضعفاء
لا يُطفئُ اللهبَ المؤججَ في دمي
                              موجُ الأسى و عواصفُ الأرزاء
سأعيش كالجبار أرنو دائما
                               للفجر ، للفجر الجميل النائي
النور في قلبي و بين جوانحي
                         فعلامَ أخشى السير في الظلماء

إني أنا الناي الذي لا تنتهي
                              أنغامه ، ما دمت في الأحياء
و أنا الخِضمُ الرحبُ ، ليس تزيـده
                                   إلا حـياةً سطوةُ الأنواء
إني إذا خمدت حيات و انتهى عمري
                                    و أخـرسـتِ المنيـةُ نايي
و خبا لهيبُ الكون في قلبي الذي
                                    قد عاش مثل الشعلة الحمراء
فأنا السعـيد بأنني متحــــــــولٌ
                                  عـن عـــالم الآثام و البغـضـــاء
هذا هو الموقف الحري بنا الاقتداء به ، و ترسم خطاه في هذه الحياة ، "فما نيل المطالب بالتمني ... و لكن تؤخذ الدنيا غلابا " . و " لا يمتطي المجد َ من لم يركبِ الخطرا
                                       و لا ينال العلا من قدم الحذرا
و من أراد العلا عفواً بلا تعبٍ
                             مضى و لم يقضِ من إدراكها وطرا "
 ثم مَنْ مِنَ بني الإنسان ، عبر مسيرة عمره التي قد تطول أو تقصر ، لاسيما ذوي الحجى و الطموح  ، لم يكن ، أو لم يكتشف في يوم من الأيام بأنه ، في بعض أمانيه ، كان بجماليونياً ، و بأنه ، في بعض طموحاته ،  كان فنتازياً و بطلاً دونكيشوتياً ؟!..  
لا أحد على الإطلاق سوى الأنبياء ربما ، و بعض العظماء من المفكرين أو المصلحين ... و حتى هؤلاء لم ينالوا من الانتصار و الخلود ما نالوا ، إلاَّ بعد صبر و مكابدة  لمعاناة تنوء بوقرها الجبال ، بل و بعد تضحيات جسام ، بلغت حد الطرد من الأوطان ،  و حد الحرق و  الصلب ، و شرب السم الزعاف بأيديهم ، فداء للمبادئ و القيم ، و ضريبة آمنوا بدفعها ثمناً لتحقيق ما كان يجيش في أعماقهم من الأماني الخالدات و الأحلام الإنسانية الرائعة .
و الحل ، كل الحل ( كما قال صاحبنا الدرعي ذاته )  في " أن نبحث عن حلم آخر ، تساعدنا الأقدار في الوصول إليه "  كلما تحطم منا حلم أو ضاع منا هدف ... أن ننحت لأنفسنا ألف "جالاتيا " و جالاتيا ، و ألاَّ نقنع أو نكتفي بجالاتيا واحدة ، إذا ما سقطـت مع الزمن أو اندثرت ، سقطنا معها و اندثرنا ، بل ينبغي أن يكون في حياتنا ألف غاية سامية ، و ألف هدف و هدف نبيل ؛ حياة عامرة بالأماني ، و أحلام اليقظة الموحية الرفيعة ؛ لأنه حينئذ ، و حينئذ فقط ، نكون أهلاً للحياة و صناعتها و معانقة آفاقها الرحبة اللامتناهية ، و عندها و عندها فقط يكون لوجودنا طعماً ، و مبرراً و معنى .
" نعلل النفس بالآمال نرقبها
                               ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل ."

                     زهران بن زاهر بن حمود الصارمي
الجمعة  7/5/2010

                                                                 

      

المقدمة التي كتبتها لمهرجان صلالة للعام 2010 عند مشاركة ولاية إزكي في فعالياته
سلامٌ لكَ يا سمحانُ منا ... و من جرنانَ زهرُ  الياسمينا
سلامٌ للروابي ، للجبال الشُّمِ ، أرضَ الأنبياءِ الطاهرينا
 سلامٌ لصلالةْ و لمرباطٍ و طاقةْ
                               و لضلكوتٍ و رخيوتَ العرينا
سلامٌ لكموا أهلَ ظفـــــــــــــــــارِ المجدِ رمزَ الأكرمينا 
سلامٌ لكموا يا من شَرُفنا        بلقياكم فنعم الحاضرينا
سلامٌ ضمَّخَ الأرجاءَ عطراً ... فنزجيه لكم مهما نأينا
فعشتم في الحياةِ حياةَ عزٍ  .... و دمتم يا إلهي سالمينا
إنه ليوم من أيام العز و الفخار ، و يوم من أيام السعد و المجد
التي طالت أشواقنا لها و الانتظار ، هذا اليوم الذي تلتقي فيه أمجاد إزكي و ظفار ، على ثرى سهل أتين ، حيث الأصالة و الكرامة و الحنين ، لذلك الماضي التليد ، الحاضر بيننا اليوم ، بجلاله وجماله الرصين ، رغم طول المسافات و آماد السنين ، فكانت بتجلياته اليوم هنا خير شاهد ، بأننا في الأرومة نسل واحد ، أسكنا شمالاً أم جنوبا ، كلنا أحفاد مالك و ابن ماجد ، و أبناء  ماجان الغبيرا ، أو مزون
في ليلة ، كأنها من ليالي ألف ليلة و ليلة  ، نحكي لكم بها ، ما خلف أجدادنا الأفذاذ للأحفاد  ، من مآثر خالدات لا يطالها النسيان  ، مهما تباعد الزمان و المكان ، في الفنون و العلوم أو ما اجترحته يد الإنسان  ، بإرادتها الحديدية ، و بسواعدها السمر الأبية ، من صور المشغولات اليدوية ، و من الحرف التي باتت تعرف الآن بالحرف التقليدية ، فاسمحوا لنا بداية ، أن ننقلكم للمكان ، قبل انتقالنا بكم لغابر الأزمان ، و استعراض إبداعات هذا الإنسان فيه ، فالمكان ، هو تلك الولاية العريقة ، التي حملت ذات يومٍ اسم جرنان ، نسبة إلى صنم من ذهب ، كانت تعبده القبائل في زمان الجاهلية ، موجود حتى الساعة ، كما تحكي الأساطير، في كهف بها شهير ، يحمل اسمه  ، أي كهف جرنان ، و عندما أنعم الله على عمان بنعمة الإسلام ، كان أهل  هذه الولاية أول من دفع الزكاة طائعين ، في عهد جيفر و عبد ابني الجلندى ابن مسعود ، فسميت من حينها بإزكي ، و هي ولاية من ولايات المنطقة الداخلية الثماني ، تعد الثالثة في مساحتها البالغة 2500 كم مربع ، و الرابعة في عدد سكانها البالغين الآن قرابة الخمسة و الأربعين ألف نسمة . متوزعين على ما يزيد عن 75 قرية ؛ أشهرها ، قرى النزار و اليمن و مغيوث و سدي و حارة الرحى ، و إمطي و القواريتو زكيت و القريتين و سيماء وأختها مقزح و هما القريتان اللتان جاء منهما المثل العماني الشهير " سيما خت مقزح " ، الذي ندلل به على تشابه الأشياء ، و قرى عديدة أخرى تنضوي تحت مسمى بلدان العوامر .
أما موقعها ، فموقع الواسطة في العقد الفريد ، فهي تتربع على عرش  قلب المنطقة الداخلية ، حيث تتضافر في بيئتها الطبيعية تضاريس الجبال و الصحاري و السهول ، كما تجمع ، من ثم ، في حياتها و تقاليدها الاجتماعية ، بين البداوة و الحضر.
     فجغرافياً ، يتوج هامَها من الغرب ذلك الجبل الأشم ، المعروف بالجبل الأخضر ، و في جزء من ذلك الغرب  ، تحاذيها بيضة ( أي خوذة ) الإسلام نزوى ، مهد العلم و العلماء ، و إحدى العواصم التاريخية الكبرى لهذا الوطن الجليل ، و من الشرق المضيبي بفيافيها الجميلة ، و مضارب الخيل الأصيلة ، و من الشمال تناغيها الفيحا  سمائل ، تلك التي بها على مدى الأيام ، ( كما يقال ) ، نخل الفرض مائل.
    أما من الجنوب فتهب عليها نُعامى ، أي رياح الجنوب ، تهب عليها من بلاد كثيرة العطايا و المنح ، فهي منح .
و في الطرف الشرقي من هذا الجنوب ، تعانق إزكي مهد البوسعيديين الكرام ، أدم  ، حيث الشهامة في بواديها ، و حيث الإباء و الشمم .
و إزكي تعد من أقدم الولايات بالمنطقة الداخلية ،بل لعلها أقدمها على الإطلاق ؛ فهي أقدم تكويناً من مدينة نزوى التاريخية ، التي نشأت قبل ما يقارب الستة آلاف و خمس مائة سنة ، حسب ما رواه السالمي في كتاباته ؛ و تحكي مخطوطة بمتحف اللبان بالبليد ، بأن إزكي قد تأسست بها أول مملكة  في الشمال ، تدعى مملكة قير، حيث ازدهرت فيها الحياة حينا من الزمن ، و كانت محط رحال القوافل التي تجوب المنطقة  ، في الجهات الأربع .
و إزكي في شكلها الحالي ، أسستها ، ما قبل الإسلام  ، القبائل العربية اليمنية و النزارية ، المتدفقة في هجراتها الأولى إلى عمان و هذه القبائل لم تزل آثارها و أجيالها ، موجودة في القريتين التوأم ، المعروفتين اليوم بالنزار و اليمن .
لذا تزخر الولاية بالعديد من المعالم الأثرية و التاريخية ، و المزارات  السياحية المتنوعة ، ما بين قلاع و أبراج و أسوار و حصون ، إلى الأسواق و الجوامع القديمة و الكهوف ، وإلى الأودية و الأفلاج ، التي قيلت بها الأمثال ، كقولهم :- بأن أشهر الأفلاج في عمان ، كانت ذات يومٍ  ، سمدي سمايل و حدقي امطي ، و دارس نزوى و ملكي ازكي ، غير أن هذين الفلجين الكبيرين ، الحدقي و الملكي ، دمرهما الغازي العباسي ، محمد بن نور ، ا لذي لقبه العمانيون ، و خاصة الإزكويون منهم بمحمد بن بور ، لما عاثه من فساد في البلاد ، و لما خلفه من خراب ، في القرى التي قاومته و استعصت عليه ، فطمس الحدقي ، و لم يبق من ينابيع الملكي إلا النزر اليسير .
 و لطمس الأفلاج حكاية طريفة تُروى ، خلاصتها ، أن محمد بن بور هذا ، سأل راعية كيف له أن يمنع المياه من التدفق من عيون                الفلج ، فقالت له : عليك بالصوف ، فرد عليها : إذن جعدش  ، فرمى خرافها و غنمها في عين ذلك الفلج ، و صارت الحادثة مثلاً يروى ؛ قالت الصوف ،  قال جعدش ، فكان جزاؤها كجزاء سنمار في الأمثال العربية .
و عموماً ؛ فإن عدد الأفلاج  ، حسبما جاء في كتاب أحمد الدرعي
" إزكي الإرث التاريخي و الإنجاز المعاصر" ، بلغ 111 فلجاً الحية منها 58 فلجاً ، و الميتة 53 فلجاً ، و هي متنوعة المصادر ، فمنها الداوودية التي تنبع من الجبال ، و منها العينية التي تنبع من العيون ، و منها الغيلية التي تنبع من الغيول ، الناشئة عن جريان الأودية  .
و من بين أعجب هذه الأفلاج فلجان ؛ فلج يدعى فلج الجن ، لأنه لا يُعرف مصدره ، و يوجد في قرية تدعى بحبل الحديد . و فلج يدعى فلج المتَّرك ، لأنه لا يظهر بعد جريان الأودية على مصدره ، إلا بعد مرور أربعة أشهر و عشرة أيام ، و هي الفترة التي تقضيها الأرملة في العدة  ، و يوجد في قرية تدعى السليمي .
و بإزكي  أكثر من 45 وادياً ، أشهرها وادي حلفين , و قنت و وديان إمطي ، و القريتين و الحجر ، و مسدود و السليل و سيما و مقزح و مقوع .
و إزكي منطقة زراعية ، تشتهر بزراعة النخيل على اختلافها و الخضروات و الفواكه ، لاسيما العنب الذي تشتهر به قرى إمطي و القواريت .
و لقد مارس العماني في هذه الولاية ، شتى الأعمال والصناعات و الحرف التقليدية  ، كمصدر من مصادر الدخل يومها ، و كإسهام حضاري منه ، بصنع و ابتكار الأدوات اللازمة لعمله فيها ، فكانت هناك الزراعة والصياغة و الحدادة و النجارة  ، و الغزل و النسيج و كانت هناك المشغولات اليدوية و الحرف التقليدية ، القائمة على الاستفادة من المواد الخام التي تتوافر في البيئة المحلية  ، كالسعفيات و الصوفيات ، و الغزْلِ و النسيج ، و صناعة الجلود ، و البارود . و قد اشتهرت بعض قرى هذه الولاية ببعض الصناعات إلى حد اعتبارها رمزاً للجودة " كالإزار القريتاني " نسبة للقريتين التي يصنع فيها .

و الآن ،  إلى نوع من الغناء ، يشبه النانا المعروف في الجنوب ، إنه غناء التعويبْ ، وهو فن من الفنون النسائية الذي تشتهر به ولاية إزكي ، وتقوم النساء بأدائه أثناء جمع الحطب أو الحشائش من الجبال. و هو غالباً ما يؤدى بين شخصين من جنس واحد أو من الجنسين ، كل منهما يرد على الآخر ؛ فيه انعتاقٌ وبثٌ للهموم و الأشواق  ، أو مناجاةٌ للأحبة الغائبين  ، و تذكُّرٌ لسويعاتِ اللقاء السعيد ، أو لحظات الفراق الأليم . فلعل الهدف من أداء هذا الفن هو الترويح عن النفس ، ومحاولة التغلب على مشقة العمل ، وتمضية الوقت في متعة و سرور ، فلنعشِ النجوى ،  ولنستمع لشجو هذا الفن و أشجانه .
و ختاما لكموا منا سلام و تحية
                                             أيها الأحباب في ، هذه الأمسية
فعساكم قد سعدتم ما  سمعتم
                                                 من فنون علّها كانت شجية
و عسانا في سنين قادمات 
                                              نلتقي يوماً و نُهديكم هدية
من كنوز الأزد في إزكي المعالي
                                                تتحلى  بالمعاني الأخوية فجزيلُ الشكرِ لكموا منا ومنكم
                                           نرتجي العذر ، إذا قصرنا شوية


أيها التاريخ سجِّلْ
1) أيها التاريخُ سجلْ بالذهـبْ
                          أن الغـبيـرى نهضت و الكلُّ هـَبْ
2) هـبَّ يسعـــى نحــوً آفـاقِ الـعـــلا
                          فسمت فوق الـثريا و الـسـحــب
3) و غدت ماجانُ نجماً ساطعاً
                            في سما الـدنيا و ما بين الشـهـب
4) فلها بالأمسِ مجـدٌ سامقٌ
                            شهَـدَ الـدهـرُ عـليـه بالـعـجــب
5) عن سفينٍ شق أمواجَ البحارْ
                             ساد يوماً و حمى أرضَ العرب  
6) و قلاعٍٍ شامخاتٍ لم تزل
                          تحكي بطولاتِ العماني إن وثب
7) وثبةَ الأُسْدِِ على مَن يجتري
                          مِـن حِـمـاهـا أو عـدواً  يـقـتـرب  
8) و لها باليوم مجدٌ طارفٌ
                                سطَّـره  قابوسُ في كـل أرَب
9) في صروحِ العـلمِ في نهضتها
                                   في علوم الفكر في كل أدب
10) في بُنىً تحـتـيـة شـامـلـة   
                                  نجتني خيراتِها جني العنب
11) من دروبٍ آمنات و مشافٍ   
                                 في قُرانا تجتلي شر الوصب  

12) و بها نحيا بأمنٍ و أمانٍ   
                              في رفاهٍ دون خوفٍ أو نصب      
 13) كلَّ عـامٍ لبلادي موعـدٌ  
                          مع شعاع الشمسِ أو عينِ اللهـب
14) فترى النورَ كساءً  للمغاني  
                              و ترى عرساً بهيجاً و طـرب
15) هو ذا موكبُ العاهـلِ فيها
                               مثل غيث في الروابي ينسكب
16) كلما حل بدارٍ أزهرت   
                        واخضوضرت فيها الفيافي بعد جدب
17) هذه قرية إمطي  اليوم صارت
                               رمزَ فخرٍ ، دفقَ خيرٍ ما نضب
18) فثلاثٌ من صروح العلم فيها
                            جسدت  خير  الأمـاني و الطلـب
19) بالأمس كانت محض حلم في الكرى
                            و بها اليوم احتفينا واقعاً أما و أب  
20) فلتعيشي يا عمان المجد دوماً
                           و لـيـدم سلـطـانـنا و مــا يـهِـــب
                           

زهران بن زاهر بن حمود الصارمي


12/12/2009




10/9/1997 
شكراً لأهل بدية
شكراً لكم من عمق أعماقي الشجية
                                 يا كرام الصحب من أهل بدية
شكراً لكم فُقتم بقلبي كل وصفٍ
                               كرماً و طيباً و إباءً و حمية 
شكراً لكم ، كانت حياتي بينكم
                                أنساً و لطفاً و سويعات هنية
شكراً لكم كنتم لروحي نغماً
                              هيج الأشجان والذكرى لأيام ندية
سوف يبقى ذكركم وسط قلبي
                                    ما بقي عمري بهذي الأبدية
كيف أنسى ذكرياتٍ حفرتها في خيالي
                               أمسياتٌ حالماتٌ في الرمال الذهبية
كلما هبت رياح الكوس يوماً
                          ذكرتني راكةَ الحسن و أنسامَ الحوية
يا خليلي لا تلمني إن بكت عيني على
                          من غدوا للروح زاداً و رفاقاً و هوية

آه لو كان الحشى يُهدى للناسٍ
                                  كنت قدمت فؤادي لكموا مني هدية
يا دياراً عشت فيها في خيالي
                              قبل أن آتي إليها من سنين سرمدية
لكِ مني كل آيات الأماني
                       أن تعيشي أبد الدهر كما أنت حَــرِية
نجمةً فوق الثريا تتسامى
                                و تدومـي مـثلـما أنت فـتيـة
فسلام الله دوماً لكِ مني
                  و مدى العمر ستبقين بقلبي يا بدية 


زهران زاهر حمود الصارمي