الأربعاء، 8 فبراير 2012


حوار ساخن حول

تداعيات أزمة الترقيات


صديق لي من الأصدقاء طال به الغياب ، رغم أنه لا يفصلنا عن بعض سوى بضع دقائق بالسيارة ، عجب لهذا الزمن يقرب المسافات ويبعد اللقاءات ، يدني الأباعد ويقصي الأقارب ، فالقريب فيه عنك بعيد ، والبعيد فيه منك قريب ، 000 على كل حال ، لأن ذلك الصـديق ممن يصـدق فيـه القول " رب أخ لك لم تلده أمك " حن القلب للقاه ، و تاق العقل لحديثه ونجواه0
        فقصدته راجيا من الله أن لا أراه إلا في أتم الصحة والسعادة والسرور ، على أني ما إن وصلت داره وطرقت باب بيته وهلّ علي بطلعته حتى أيقنت أنه يصطنع البشاشة اصطناعا  وأنه يغتصب الأبتسامة اغتصابا ، فالوجه شاحب والعينان غائرتان تحيط بهما هالة سوداء من الحزن أو الإعياء ، وما أن استقربنا المقام حتى بادرته بالسؤال عن صحته وصحة أهله والأقارب ، فكان جوابه أن قال  :- الجميع بخير والحمد لله ، 00 ثم أضاف في نبرة حملت في طياتها معنى الحسرة  و الشكوى :_ الحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه .!
 فقلت له :- أرى طيور الهم في عينيك ، وأسمع رنة الأسى في صوتك ، فما خطبك يا صديقي ؟0
        قال:- بل قل أرى غراب البين في عينيك وأسمع نعيب البوم في صوتك . فأذهلني قوله ، سيما وأنه مخالف لمألوف  طبعه ، فقلت له متعجبا :- " ما هذا الأسى والتشاؤم الذي أنت فيه ، تصبر يا صديقي ، وكن رجلا على الأهوال جلدا  ، فما عهدتك إلا متفائلا بالخير، باسم الثغر، رفيع الهمة ، متوقد النشاط و العزم ، فهات ما عندك خبرني ، علي أستطيع أن أخفف عنك شيئا مما تعانيه .
       فلا بد من شكوى إلى  ذي مروءة ……………..يواسيك في الأحزان أو يتوجع 
وبعد أن أطلق من أعماقه زفرة حرّى طويلة ، قال:- يا صديقي لقد جاوز السيل الزبى ، فأين المفر من الغرق ، وبلغ السكين العظم فأين الخلاص من الألم ، وناء أطلس بحمل الأرض ، فأنى له النجاة من الإنسحاق والعدم 0فأي تفاؤول من بعد ذلك يبقي وأية همة أو عزم0
و استطرد في حديثه دون أن ينتظر مني أي تعقيب أو سؤال آخر ، وكأنه دخل في بحران الحمى أو هلوسة اللاوعى .:_ عشر سنوات من العمر- يا صديقي-و أنا أعمل بكل الجد و الكد و الإخلاص في هذه الوزارة الخدمية ، و لا من ترقية .. عشر سنوات من العمر ضاعت وقبض الريح في العدو وراء الأمل – السراب ، أمل الحصول على ترقية أحسن بها أحوال أسرتي و أوضاعي المادية المتردية 0
و هنا قطعت استرساله في الحديث سائلاً إياه في استغراب :- أحقاً أنت لم تحصل على ترقية منذ عشر سنوات ؟ ! أم أن هذه مجرد مبالغة تقصد منها استثارة العطف و التعاطف ؟ !  ثم قل لي :- كيف تتردى أحوالك المادية و أنت تعمل و الحمد لله في وظيفة ترد منها راتباً شهرياً .؟ !
فالتفت إليّ و رانت في عينيه نظرة شاردة كأنه عائد لتوه  من أعماق سحيقة و قال في صوت خافت فيه شيء من عتاب على ما قلته له :- أنا من ترقيات  شهر يناير 1992 ، و نحن اليوم في شهر يوليو 1999 ، و لا من بارقة  أمل ، فاحسبها كما تشاء ، لتجد أنها عشر سنوات أم لا … أما كيف تتردى أحوالي المادية و أنا لدي راتب شهري ، فجميل أن تعلم أولاً أنه ليس لي دخل سواه ، فأنا ممن ينطبق عليه المثل القائل (( إن حشــت تعشــت  ))  و طبعا لم يكن بوسعي فعل شيء - مشروع أو خلافه - لأدعم به دخلي ، لأني من الأساس عائش على الكفاف ، فثلث الراتب لبنك الإسكان . و ربعه لوكالة السيارات ، فوزع الباقي على احتياجات الحياة الأساسية ،  لترَ أي نوع من الحياة أنا أعيش منذ البداية ، تلك ناحية .... ثم أنظر:- قبل عشر سنوات كان لدي طفلين  ، واليوم أصبح لي خمسة أطفال ، فهل الأنفاق على خمسة كالأنفاق على أثنين ؟ والراتب هو الراتب 0 قبل عشر سنوات كان ثمن الكثير من السلع والمواد الغذائية ريالا واحدا ، وأصبح اليوم ، بريال ونصف أو حتى أكثر ، والراتب هو الراتب0 قبل عشر سنوات تمكنت من الإستغناء عن شراء الكثير من الكماليات ، لأن قريتي لم تكن قد دخلتها خدمات الكهرباء والهاتف ، ولكنها اليوم وبعد دخول تلك الخدمات قريتي و بيتي ، صارت تلك الكماليات أساسيات لا بد من شرائها ولو بالدين ، كالثلاجة والمكيف والتلفزيون والهاتف + فاتورة كل ذلك  ، والراتب هو هو  ولا من زيادة تذكر.
        إننا نعمل يا أخي لا لنعيش الكفاف فحسب بل كان المفترض _ وذاك هو الحلم المشروع لكل إنسان _ أننا نعمل لكي نرتقي بحياتنا ، ونحسن من أوضاعنا المعيشية ، وننقلها من حال سيئ لحسن من حسن لأحسن ، ولكن احتجاب الترقية عني جعل الأمر عندي مقلوباً ، حيث أصبحت مثل كرة الثلج  ، أكبر وأتدحرج ، وأتردى من حال مادي حسن إلى حال سيئ ، ومن سيئ لأسوء ،  فخطوات للوراء ولا من خطوة واحدة في حياتي للأمام ، فهل هذا هو الحال الذي يدعوني إلى التفاؤل والإبتسام ؟
عشر سنوات لو كنت في وزارة من غير هذه الوزارة الخدمية ، لكنت حصلت على ترقيتين  كما حصل زملائي الذين التحقوا بالعمل في وزارات أخرى في نفس الفترة التي التحقت بها أنا هذه الوزارة .
ثم حدق في عيني و راح يخاطبني في شيء من الحدة و كأني أنا المتهم لديه ، قائلاً :-ألسنا أبناء وطن واحد ، و دولة واحدة ، و حكومة واحدة ، و نخضع لقانون خدمة مدنية واحد ؟!!
لماذا يرقى الموظفون في  (س) من الوزارات كل ثلاث سنوات ، و لا يرقى الموظفون في (ص) من الوزارات حتى كل عشر سنوات ؟!  لماذا هذا الكيل بمكيالين ؟!  علماً بأن العاملين في الوزارات الخدمية هم الأكثر ارهاقاً و انسحاقاً في العمل ، و عملهم ان لم يكن أهم من العمل بأية و زارة أخرى فليس قطعاً بالأقل أهمية ، لأنهم يقدمون خدمة لا يرتقي بدونها وطن ، و لا تحيا بدونها أمة0
        فقلت له  :- حنانيك صهٍ ، فقد جاوزت في حديثك الخط الأحمر ، وإن للجدران آذاناً 0
        فما كان منه إلا انفجر في وجهي قائلا في جرأة :-  فاليخترق صوتي كل الآفاق ولتسمعه كل الآذان ، فأنا لا أقول زيفاً ولا كذباً ، بل حقائق باتت حديث الساعة بكل مكان ، حقائق يجب أن نجهر بها علها تصل لمسامع من لم يسمعوها من أهل الحل والعقد الذين ما زلنا نعلق عليهم ذماءة الأمل الباقية لدينا في حل هذه المشكلة- المأساة  0و{ إن الله لا يستحي من الحق شيئا  }.
فقلت له وقد استفزني حديثه الجسور للحوار :- حسنا ، ربما كما قلت أن موضوع الترقيات في بعض الوزارات الخدمية هو حديث الساعة ، ولكن اسمح لي بسؤالك بعض الأسئلة حول الموضوع ،
أولا ، كما  تعلم أن الترقيات تخضع لأنظمة وقوانين مدنية مرعية ، تتلخص في تقارير التقويم السنوي ، فأنت لم تترق ربما لأن تقاريرك السنوية دون المستوى المطلوب .
فأجابني بهدوء هذه المرة قائلاً :-  لو كان الأمر كذلك لهانت ، لأنه لحظتها علي أن أتحمل المسؤولية ذاتي ، فذنبي – كما يقال – على جنبي ، و لكني أعلم علم اليقين أن تقاريري السنوية دائما في مرتبة الامتياز ، لأنني أعرف نفسي ويعرفني العاملون معي بأني مجد و مجيد في عملي ، والحمد لله ، 00 ثم أني لست الوحيد الذي لم يرق في العمل بل كل العاملين الآخرين ، وهو أمر تساوى فيه المحسن بالمسيء  ، و العامل بالخامل ، و المبدع بالمقلد ،  فما عاد هناك ما يميز هذا عن ذاك ، لا في الثواب ولا في العقاب ، وتلك إشكالية أخرى لها أبعادها الخطيرة على الناحية الإنتاجية في العمل ، لأن العمل أساساً ، أي عمل ، أو هكذا هو المفترض ، أنه لا يوجد إلا ليكون وسيلة للإنتاج و تحسين النوعية ، التي ستؤدي بدورها إلى الإزدهار و التقدم و الرقي العام و الخاص ، لا مجرد وسيلة للإرتزاق أو شيء يقتل به أوقات الفراغ  فحسب . و أية انتاجية ترتجى و اية نوعية في ظل ظروف عمل محبطة كهذه .
قلت له :- أنا ألتمس العذر لتلك الوزارات الخدمية ، فهي أولاً وزارات ذات قاعدة عريضة و كبيرة  من الموظفين ، و ميزانياتها محدودة … ثم أن تلك الوزارات منصرفة الآن نحو تكوين و استكمال بناها التحتية ، و ميزانياتها مرهقة بالمشروعات الجديدة .
فقال لي في لغة واثقة :- أما قولك عن محدودية الإمكانات مع وجود قاعدة عريضة من الموظفين فمردود ، ذاك أن ميزانيات الوزارات تتناسب طرياً مع حجم موظفيها و احتياجات المهام المناطة بها ، فلا يعقل قطعاً أن تكون هناك وزارات تنعم بالوفرة ، و أخرى تشكو من السخرة . لأن هناك أنظمة وتشريعات مالية عليا تراعي و لاشك كل تلك المعطيات بما يحقق المنفعة و المصلحة العامة. .أما قولك عن إرهاق ميزانيات تلك الوزارات بالمشروعات الجديدة ، فهوأمر صحيح و أتفق معك فيه مئة بالمئة ، و لكن السؤال العتيد الذي يفرض نفسه هنا هو :- أيهما أهم  ، أو أيهما له الأولوية ،  مشروع تشييد البنيان ، أم مشروع تعضيد الإنسان ؟.. لقد نسيت تلك الوزارات التي أرهقت ميزانياتها ومواردها في مشروعات تشييد البنيان بأن الأهم من ذلك كله هو دعم و تعضيد الأنسان الذي بدونه أصلا لن يكون لأي بنيان أية قيمة أو أثر أو معنى ، إن أمسى ذلك العامل فيه محبطا خائر العزم والقوى .
        إن الأنسان  أو ما نسميه بالقوى البشرية هو من أعظم وأهم الموارد اللازمة لتسيير وإنجاح أية عملية إنتاجية أو تنموية ، ومهما بلغت عظمة الموارد الأخرى فلن تجدي نفعاً ، ولن تؤتي ثمارها المرجوة بدون هذا الأنسان الذي يحركها عقلاً وعضلاً ، ومن هنا كان التأكيد السامي لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم في أكثر من خطاب له بأن الهدف الأول للتنمية الوطنية هو تنمية الأنسان العماني ، لأن هذا الأنسان هو العمود الفقري والجسر الصلب الذي تعبر من خلاله شتى صور الممارسات والأنشطة التنموية اللازمة للنهوض بهذا البلد العزيز ، ولتحقيق هذا الهدف السامي النبيل ، ليس بأقل من أن يعطى كل ذي حق حقه ، وأن يكون جزاء الفرد من جنس عمله ، إن سلبا فسلبا وإن إيجابا فإيجابا ، ( فما جزاء الإحسان إلا الإحسان ، وأن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ) 0
        قلت له محاولا مواساته و بعث روح الأمل عنده  :- لا عليك يا صديقي ، فمن صبر ظفر ، ومن تأنى نال ما تمنى ، وبعد كل عسر يسر ، ستأتى ترقيتك طال بها الزمن أو قصر 000 وستأتيك ، إن شاء الله ، بأثر رجعي يحفظ لك حقوقك بدون أدنى هضم 0
        قال وفي صوته كل معاني الأحباط  و الخيبة :- تلك مقولات نقولها لنتداوى بها كما يتداوى شارب الخمر بالخمر 000 والجعجعة حول قرب الإفراج عن الترقيات تصم آذاننا منذ زمن طويل ولكنا لم نر لها طحناً حتى الآن 00 وعن الأثر الرجعي وحفظ الحقوق ماذا تراني أقول ، لكم سنة سيأتيني ذلك الأثر الرجعي ؟‍‍‍‍‍‍‍ لسنة ، لسنتين ، أو لثلاث سنوات على الأكثر 0 فلو كنت مستحقا للترقية قبل خمس سنوات من الدرجة الثانية إلى الدرجة الأولى ، فمن ذا الذي سيعوضني عن فروقات السنتين الآخريين ؟  ولو كنت بالدرجة الثالثة التي وصلت لمربوطها وترقيت للدرجة الثانية التي لا تفرق في راتبها عن الدرجة السابقة لها إلا بقدر زهيد في الراتب ، لكان الأمر أنكى وأمر،  لأنه سيكون عليّ الإنتظار عشر سنوات أخرى لأترقى للدرجة الأولى ، فأصبح كما لو أني قضيت عشرين عاما من العمر في درجة واحدة ، فأي حفظ للحقوق كما ترى وأي أمل يرتجى0
        قلت له وقد أعيتنى الحجة في حواره : - أراك تتكلم بجرأة وصراحة جارحة ، ألا تخشى أن تزيد صارحتك هذه الطين بلة ، فتقصى من عملك تحت شعار المشاغبة أو على الأقل تعرقل أو تستثنى من الترقية عقابا لك على رفع عقيرتك بالشكوى ، سيما وأن سوق العمالة وافر هذه الأيام وفيه فائض كثير من شتى الفئات ؟ 0
        قال لي بكل ثقة وحزم :- لا ، لا أخشى شيئاً من ذلك ، لأنني رغم المعاناة والإحباط الذي أعانيه لم أفقد الأمل قطعيا ، فما زلت أعتقد في قرارة ذاتي بأن هناك في قيادات هذا الوطن من بوسعه الإحساس بمعاناتنا وتقدير ظروفنا الصعبة ، شريطة أن يصل إلى مسامعه صوت الأنين ، ساعتها لا بد وأن يتحرك الإحساس بالمسئولية إزاءنا ، وهذا ما يجعلني أجهر بالقول بما أعانيه ، لأن الساكت عن حقه شيطان أخرس  ، ولأن الساكت حاجته غير معروفة وبالتالي غير مقضية ، ولأن السكوت علامة الرضى بما أنت فيه ، وأنا أكون كاذبا لو قلت بأني راض عما أنا فيه ، فلا بد أن أوصل إحساسي هذا بعدم الرضى لمن يعنيه ويهمه أمري ، وإلا فكيف له أن يعلم ما أعانيه ، وكيف لي الأخذ على خاطري منه على عدم تغييره أو تحسينه وضعي ، و إني لؤمن بأن الجهر بالقول خير من إخفائه في الصدر ، لأن النور خير من الظلام ‍. ثم أنه – يا صديقي - كما قال الشاعر التركي الكبير ناظم حكمت :-
                ( إذا لم أشتعل أنا ……..ولم تشتعل أنت ……….ولم نشتعل نحن
                                    فكيف يتحول الظلام نوراً ؟ ! )
        عندها ما حرت جوابا سوى أن قلت له :- هو كذلك يا أخي ، وما ضاع حق وراءه مطالب ، وإني لواثق بأن الدنيا لا زالت بخير ، وبأن في بلادنا حكومة رشيدة يهمها ولا شك راحة المواطن وسعادته ، يقف على رأسها أب رحيم وحكيم نذر نفسه منذ بداية عهده الميمون للأرتقاء بهذا الوطن وإسعاد مواطنيه ، هو حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم حفظه الله تعالى ورعاه ، فتفاءل بالخير – صديقي – تجده إن شاء الله  .


                                         زهران بن زاهر بن حمود الصارمي
28/ 6 / 1999 م

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق