الأربعاء، 8 فبراير 2012



الثورات العربية المعاصرة
جذورها التاريخية  ( 1)
و الدروس المستفادة منها (2)
لا شك أننا أمام أبواب عصر جديد ، في العالم العربي ، تبدو مقدماته واضحة جلية في الانتفاضات الشعبية التي تجتاح البلاد  العربية من المحيط إلى الخليج ... تلك الانتفاضات التي تعادل في وقعها و أبعادها و تأثيراتها الإقليمية و الدولية في بعض البلدان أكبر الهزات الأرضية التي بقوتها أطاحت بأعتى و أقوى القلاع البشرية  ذات المكانة العسكرية و الأمنية و الاقتصادية ، كتلك التي حدثت في جمهورية مصر العربية ، و تونس ، و الحبل على الجرار كما يلوح في أفق بعض البلدان العربية  الأخرى ... و السؤال الذي يطرح نفسه و بقوة ، لماذا هذه الثورات ؟ و لماذا تحدث في هذا الوقت بالذات ، ما الذي يجعلها ككرة الثلج المتدحرجة من أعالي القمم ، تكبر و تكبر في سقوطها ، وتسحق في طريقها كل شيء أمامها بلا تروٍ أو هوادة ... ما الذي جعل هذا الحراك الشعبي الذي بدأه محمد البوعزيزي التونسي ، بإشعال النار في جسده ، يبدو كاللهب الذي صادف في طريقه بترولاً منسكباً في طول البلاد العربية وعرضها ، فاجتاحت النيران مدنها و ساحاتها و سهولها و الجبال .؟ ..... ما هي القوة السحرية التي غذت هذه الحركات الشبابية - التي بدأت في غالبيتها عفوية سلمية بسيطة – لتغدو بعد حين قصير في قوتها واندفاعها المفاجئ كالإعصار في أقصى درجاته ، فلا يُبقي أمامه و لا يذر ؟ ....ما السر الكامن وراء كل هذا الجيشان و الطوفان الشعبي الراعد الذي صار مفاجأة لم تكن أبداً في الحسبان حتى لدى أدق مراصد البحث و التقييم لنبض الشارع العربي .؟ ... أهو الخبز وحده ، أم أن وراء الأكمة ما وراءها ؟ ... أم أن الخبز ما عاد للثورات المعاصرة أكثر من قمة جبل الجليد الطافية على سطح البحر ؟!
أجل ! لو كان الخبز وحده يحرك الشعوب ، لحرك الجياع في شبه القارة الهندية ، و في الصومال ،  و في غيرها الكثير من البلدان الإفريقية و الآسيوية ، و في بعض بلدان أميركا اللاتينية  ؛ لكن من الواضح جداً أن الملايين التي امتزجت و تلاحمت و شكلت تلك الملحمة الفريدة في صوتها الموحد الهادر الهاتف بسقوط النظام ، لم يوحدها فقدان أو نقصان رغيف الخبز فحسب ، قدر ما وحدها و صهرها في بوتقة واحدة ، هو قبل كل شيء و فوق كل شيء ، فقدان الكرامة ... هو إحساسها الساحق بالمهانة ... هو تجريدها من إنسانيتها ، و شعورها المذِل بأنها صارت في أوطانها و عند حكامها في منزلة أحط و أدنى من منزلة الحيوان #




#  إبان الأحداث الكبرى لثورة الخامس و العشرين من يناير في مصر ، ظهرت جماعة من الزمرة الحاكمة أو من منتفعيها ، تنادي بترحيل الكلاب و القطط ، خوفاً عليها من أن تصاب بأي أذى أو مكروه !!



إن كلمة الظلم ، ما عادت تعني في قاموس الزمن المعاصر مجرد سلب أو هضم لحقوق الفرد الاقتصادية ، بل تعدى معناها في ضمير و عقل هذا الفرد إلى أبعاد أخرى أعم و أشمل تناولت معاني الهضم و التهميش و المصادرة للحقوق في كل جوانب الحياة الاجتماعية و الاقتصادية و الفكرية و السياسية و التعليمية و المهنية التي يعيشها هذا الفرد المواطن ، تجسيداً و تحقيقاً لمقولة المسيح عليه السلام : " ليس بالخبز و حده يحيا الإنسان "
 و لقد نمى هذا الوعي الوطني الثوري الحر ،  و ترعرع غرسه في أعماق النفس و العقل الباطن اللاواعي لأفراد هذه الأمة ، بفعل النحت المستمر في الذاكرة و الوجدان ، و  العزق و البذر و الري الطويل النفس ، المنظم منه  ، والغير منظم ، المقصود الموجه منه ، و العفوي الغير مقصود ، الذي مارسه المثقفون الطليعيون ، و الحاملون لهموم الأوطان و كرامة الإنسان على مختلف مشاربهم على مر العصور و الأزمان ، و في مختلف الأمصار و البلدان العربية ، حتى وصل إلى ما وصل إليه اليوم من فيض و وهج ، تجلت بداياته مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين بظهور الإرهاصات الشعبية المعبرة عن تململ شعوب هذه الأمة و انتفاضها في وجه السحق و المحق و الهوان الذي يمارس في حقها من قبل قوى الظلم و البطش و الطغيان ،  الداخلية منها و الخارجية ، فكانت الثورة المصرية عام 1952، و ما رافقها من ظهور قوي للحركة القومية العربية و الناصرية ، تجلت في قيام الثورة الجزائرية ، ثورة المليون شهيد ، و في تفجر الحركات التحررية ضد الاستعمار و أعوانه في كثير من الأقطار العربية خلال الستينيات و النصف الأول من سبعينيات القرن المنصرم .... ثم كان ما كان من أمر الجزر و الوهن الذي اعترى جسد هذه الأمة في نهايات القرن العشرين و العقد الأول من القرن الواحد و العشرين ، و ذلك لشراسة الهجمة الإمبريالية و حجم التكالب الاستعماري و الصهيوني على هذا الجزء الحيوي من العالم ...
غير أن هذه الأمة ، رغم ما بدا على جسدها من إعياء و وهن ، وصل حد اعتقاد الكثيرين منا بأنها قد ماتت و انتهت ، و أصبح يردد فيها و في الأحداث الجسام التي تمر بها ، و هي بلا ردة فعل أو حراك ، قول المتنبي الشهير:-
" من يهن يسهل الهوان عليه ........ ما لجرح بميت إيلام "
مع كل ذلك ، و باللهب المتصاعد كالبركان في طول البلاد العربية و عرضها ، أثبتت هذه  الأمة بأنها حية تنبض بالحياة ، و بأنها تستمد هذا الزخم الحسي و الحركي من عمقها التاريخي الثري بكل معاني الإباء و الكبرياء و الشمم ، و بالمواقف الناضحة  بالشجاعة و الشهامة و الكرامة و القيم ، التي يزخر بها ميراثها الحضاري منذ سالف الأيام و القدم .
و أنا بذلك أتعارض مع  مقولة : أن الشارع العربي في وعيه و حراكه تعدى و تجاوز المثقفين العرب  ، و تركهم خلفه في طموحاته و أهدافه و غاياته ؛ كما ذهب إلى ذلك عدد من الكتاّب على رأسهم علي حرب في كتابه" أوهام النخبة أو نقد المثقف " الذي نعى فيه موت المثقف الرسولي و انتهاء دوره القيادي الطليعي  ، و بل و إني لأرى حراك الجماهير العربية الراهن ، إن هو إلا ترجمة لأقوال ملتهبة خالدة لا تُعد ، لعدد لا يُحصى من حملة الراية و الشعلة المتوهجة المتناقلة بين الأجيال المتعاقبة لهذه الأمة . فمنذ البدء كانت المنطقة العربية ، منطقة رافضة للذل و الهوان ، مقاومة للظلم و الطغيان ، عاشقة للتجدد و التطور و التغيير ؛ و ليس أدل على ذلك من أن هذه المنطقة كانت مهداً لكل الرسالات السماوية الكبرى ، الهادية للإنسانية سواء السبيل
 فالثورات الشعبية العربية المعاصرة ، التي تبدو للبعض مفاجأة ، و أخذتهم على حين غرة ، ما هي إلا تعبير صادق لقيم الرفض و تلبية لنداء الثورة المتراكم المترسب في أعماق العقل الباطن و ضمير و وجدان أبناء هذه الأمة عبر ردح من الزمن ، ظل يطلقه العرب الأمجاد و حكماؤهم و شعراؤهم الخالدون في أفعالهم البطولية و أقوالهم الاسنتهاضية منذ عنترة بن شداد و ربما قبله بكثير ، حين قال :-
" لا تسقني ماء الحياة بذلة .... بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ماء الحياة بذلة كجهنمٍ ............و جهنمٌ بالعز أطيب منزل "
إلى أبي بكر الصديق و وصيته العظيمة الملهبة لحماس جيوش المسلمين الزاحفة نحو الروم في معركة اليرموك " أطلبوا الموت توهب لكم الحياة "
مروراً بقطري بن الفجاءة و قوله
و ما للمرء خير في حياة ............ إذا ما عُدّ من سقط المتاع "
و في الكبرياء و الإباء الكامن في الأشعار الخالدة لشاعر العروبة أبي الطيب المتنبي :
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى .... حتى يُراق على جوانبه الدم
و " إذا غامرت في شرف مروم ...... فلا تقنع بما دون النجوم
فــطــعــم المــوت فــي أمـر حـــقــــــير .......  كــطــعــم المـــوت فــي أمــر عــظــيــم   "
و في الأنفة و الشموخ المتجسد في معلقة عمرو بن كلثوم :-
إذا ما المُلكُ سام الناس خسفاً .......... أبينا أن نقر الذل فينا
إذا بــلـــغ الــرضــيـــع لــنــا فــطــــامــــــــا............ تــخــر لـه الـجـبـابـر سـاجـديـنــا
و إلى " وا معتصماه " في معركة  عمورية ،... و إلى  " وا إسلاماه " في حطين صلاح الدين الأيوبي ... و إلى البطل عمر المختار الليبي ،  و صرخته القاهرة في وجه المستعمرين الطليان " نموت أو ننتصر "  ... و إلى جمال عبد الناصر ،  ذلك القائد الكارزمي  الذي ألهب الجماهير العربية و نفخ في عزائمها ،  وجعل لقضيتها ، قضية العروبة ، في العالم ، هيبة و قيمة و مكانة .... و إلى القضية  الفلسطينية و لظى تنظيماتها الثورية ... إلى اللهب المتصاعد من قصائد  شعراء الرفض و المقاومة ، و على رأسهم أبي القاسم الشابي و قصيدته " إرادة الحياة " التي صارت شعاراً لكل الثورات العربية و غير العربية في هذا الزمن .
أجل ! لم تكن الثورات العربية المعاصرة إلا  رجع الصدى لآلام شعرائنا المعاصرين العظام ؛ محمود درويش و سميح القاسم ، و معروف الرصافي و أحمد شوقي ، و سامي البارودي ، و فاروق جويدة ، ذلك الشاعر الثائر المعاصر ،  المحترق ألماً و غيضاً و غضباً على الحضيض الذي وصلت إليه هذه الأمة ، بعد أن كانت رمزاً للمجد و العز و الفخار ، مجسداً كل ذلك في قصيدته مرثاة الغروب ....  
" كانوا ملوكاً..... و كانوا للورى قبساً
و شعلة من ضمير الحق تشتعل
لم يبق شيء لنا من بعد ما سقطت
كل القلاع
تساوى السفح و الجبل
لم يبق شيء لنا من بعد  ما غربت
شمس الرجال
تساوى اللص و البطل
يا أيها الجرح ... كان لي أمل
أن يبرأ الجرح
لكن خانني الأمل
ففي خيالي شموخ كنت أنشده
مجد تغنت به أجيالنا الأول
لكنه العار يأبى أن يفارقنا
و يمتطي ظهرنا أيان نرتحل
يا أيها الجرح ..... نار أنت في جسدي
و جرحنا العار
كيف العار نحتمل
أجل ! أين تذهب كل تلك الصرخات المجلجلة ، و هذا النداء الاستنهاضي المزلزل العظيم ، أين يذهب إلا في أعماق النفوس ، فيترسب فيها و يترسب كترسب الحمم في أعماق البراكين  ، إلى الحد الذي يضيق بها جوف الأرض ، فتنفثها ألسنة من نار و حمماً تحرق كل شيء أمامها و لا تبقي له على أثر .
إنه رجع صدى " الجزيرة " ... تلك القناة العربية الثائرة الحرة ... رجع صدى كل إعلامييها الطليعيين الأحرار ،  الحاملين مشاعل التنوير بكل دهليز من دهاليز الظلم و الظلام ، فكان منهم الشهيد و الطريد و الجريح و المعتقل ..... و إنه لرجع صدى الحرف و أقلام الشرفاء الألف ، الذين يخطون بدمائهم  قولاً أفعل من صول – كما قالت العرب .
إذاً ، فهي ثورة فسيفساء المجتمع العربي بكل فئاته و طبقاته و تكويناته ...   ثورة المهضومة و المنهوبة حقوقهم ... ثورة الجياع... ثورة المعذبين في الأرض ، المشردين العائشين بلا سكن و لا مأوى ، المفترشين الأرض ، الملتحفين السماء ...في كثير من مدننا العربية .
و هي ثورة المكممة أفواههم ... ثورة من شاءت الحكومات العربية أن يكونوا صماً بكماً عمياً فهم لا يعقلون ، رغم كونهم بكامل حواسهم و العقل . .... هي ثورة المداسة كرامتهم ،  الممرغ بكبريائهم و شرفهم في الوحل .... ثورة الموتورين  المصادرة إنسانيتهم .... ثورة الناقمين الساخطين على الفساد ...الرافضين للتخلف و الكساد ... ثورة الفقراء و فئات الطبقات الوسطى في مجتمعاتنا العربية ، بشتى أطيافهم الفكرية و الآيديولوجية و العقائدية  على حد سواء ....  لقد وحدهم باليوم من ألغى وجودهم بالأمس ، و اتخذ في مسيرته معهم شعار " أنا و من بعدي الطوفان " ... فصار كلهم في الهم شرق ، و أصبحت كل عين تبكي على ما شجاها  ، و كل قيس يبكي على ليلاه  ، التي اغتصبها ثم اغتالها في وضح النهار هذا الحاكم الطاغية أو ذاك
لقد صبرت هذه الأمة طويلاً على جلاديها و مغتصبيها صبر الكريم الحليم ؛ غير أن حكامها لم يرعوا فيها إلاًّ و لا ذمة ، بل و جرعوا أبناءها صنوفاً من العذاب و الهوان و كأس المذلة ، فنفذ الصبر و طفح الكيل لديها و بلغ السكين العظم ، و الويل ثم الويل من غضب الحليم ، فيوم المظلوم على الظالم ،  أشد من يوم الظالم على المظلوم ، فكان الانفجار الذي لن يقر له قرار إلاّ بسحق كل العروش و الأنظمة المنحلة ، التي عاثت في أرضنا العربية  فساداً ، و صيرت بلداننا إلى إقطاعيات لها ، و شعوبنا إلى مجرد أقنان و عبيد
الدروس المستفادة من هذه الثورات ( 2 )
إن الدروس المستفادة من هذه الثورات لا تكمن في مدى الانتصارات التي قد  تكسبها ، أو لا تكسبها في ساحات النضال السلمي أو العسكري  ، و لا في مدى قدرتها ، أو عدم مقدرتها على تحقيق كل أهدافها  المرجوة المبتغاة ....  فالوضع الجيوسياسي للوطن العربي و شعوبه ،  شديد التعقيد ، في تركيبته الأنثروبولوجية و الطبقية و العقائدية ، و شديد الحساسية للغرب و مصالحه الاقتصادية و الإستراتيجية ؛ الأمر الذي يجعل عوامل و عناصر الثورة المضادة قوية بل و شرسة هي الأخرى بالمقابل . و لكن الدروس المستفادة من هذه الثورات و الحقائق التي أفرزتها و أنتجتها بشكل قطعي لا جدال فيه  ، هي :-
§    أن شعوب هذه الأمة رغم كل ما ران عليها من خمود و همود و استكانة ، لم تستسلم و لم تمت ، بل وقفت على قدميها و ضربت بقبضتها الحديدية أسوار السجون المحاطة بها ، فحطمتها و حطمت معها إسار كل المظلومين و المعذبين في الأرض . و أخرجت المارد من قمقمه ، فما عاد بالإمكان لجمه أو إعادته إلى قوقعته .
§    أن ظاهرة الفوبيا التي كانت تحكم الشعوب العربية و تكمم أفواهها و تكبل إرادتها ، من محيطها للخليج  ، انتقلت كرتها ، بفعل و فضل هذه الثورات ، من ملعب الشعوب إلى ملعب الحكام ، فصاروا  هم من ترتعد فرائصهم من شعوبهم  ، و ليس العكس  ، و صاروا هم الذين يحسبون ألف حساب و حساب للشعوب ، و لم تعد الشعوب تخشى الهراوة الغليظة لقوى القمع ، و لا رصاصها أو قنابلها المسيلة للدموع أو للدماء  .
§    أن هذه الثورات و ضعت كل الأنظمة العربية بلا استثناء أمام حقيقة مفادها ، إما أن تسعى هي ذاتها للتطوير و إحداث التغيير لسحب البساط من تحت أقدام الثورة ، و محاصرة الحريق الثوري بقطع الأعشاب من حوله  ، أملاً في إطالة فترة بقائها أطول فترة ممكنة ؛ { و هذا ما يحدث بالفعل حالياً في كثير من البلدان العربية كالأردن و المغرب و الجزائر و دول في الخليج العربي } ؛  أو أن تستعد لمواجهة اللهب القادم نحوها كالإعصار ، فلا يبقي من أركانها و لا يذر.
§    أن هذه الأمة العربية – كما قال عنها ذات يوم هنري كيسنجر همساً في أذن مناحيم بيجن رئيس الوزراء الإسرائيلي يومها :- " بأنها أمة ذات بعد و عمق تاريخي و حضاري و جغرافي و اقتصادي و ثقافي خطير ، ما اجتمع لأمة مثلما اجتمع في أمة العرب ... و لكنها كانت تعيش فترة من السبات الشتوي ... فنصح كيسنجر يومها ضيفه بيجن بأن تسعى إسرائيل جاهدة لإطالة فترة هذا السبات ؛ لأن هذه الأمة ، كما قال مستطرداً ، لو استفاقت من نومها تحولت إلى مارد جبار لن يكون بوسع قوة في الأرض الوقوف في وجهه "
§   أن هذه الثورات استمدت زخمها و عزمها و إيمانها القوي بالانتصار ، من عدالة قضيتها أولاً  ، و من كاميرات الجزيرة و نظيراتها من و سائل الإعلام الحرة الشريفة ، التي رفعت الغطاء عن كل أشكال البطش و العسف الذي كانت تمارسه هذه الحكومات  في الظلام ،  بأبشع صوره في حق كل من يرفع عقيرته في وجهها بكلمة ... فما عاد بوسعها أن تمارس ذلك الطمس للحقائق أو تزييفها ... ما عاد بإمكانها أن تمارس ساديتها في القتل و التعذيب و التنكيل بدم بارد في الخفاء ، و دون أن يعلم العالم شر فعلتها و سوء أعمالها ، بل أصبح الصوت و الصورة المرئية في كل أصقاع الأرض تفضح و تعري كل أفعالها اللاإنسانية  المشينة   ؛ فمهما حاولت التستر على رذائلها  و ممارساتها القمعية المريعة و القبيحة في حق شعوبها ، فلن يجديها ذلك نفعاً في إجهاض أو إخماد هذه الحرائق المنتشرة في ربوع بلدانها ، بل و لن يزيدها العنف المستخدم ضدها شهاراً جهاراً إلا أواراً و اشتعالاً ، سيصل لهيبه إن عاجلاً أو آجلاً كراسي عروشها المتداعية  ، و لن يزيد هذه الحكومات و طواغيتها إلا حرقاً و عزلة و كراهية لها في الداخل و الخارج لدى البلدان الحرة و غير الحرة !! ... و من يزرع الشوك لا يجني العنب – كما قالت العرب في أمثالها الخالدة .
§    أن هذه الثورات بهذا الحجم و الشمول الذي استوعب و احتوى كل ألوان الطيف الفكري و الطبقي و العقائدي للمجتمعات العربية ، قد تخطت بتيارها الجارف كل أطروحات و مرئيات الأيديولجيا و العقائد السائدة بشتى مذاهبها و المناهل ، بل و ألزمتها المراجعة و التقييم الذاتي ، إن هي أرادت لنفسها الوجود و الاستمرار بين الجماهير العربية ...حيث صار عليها هي الأخرى أن تجدد في رؤيتها و أطروحاتها و فهمها و تحليلها لمعطيات الصراع و آليات التنبؤ بالأحداث و قيادتها للحراك ؛  و إلا و جدت نفسها بعد حين على الهامش ، خارج التيار الذي لا يلوي على شيء في جريانه و حراكه ... ذلك أنه ، لا  اليسار الاشتراكي أو العلماني بنظرياته و شعاراته الثورية  الطنانة الرنانة ، باتت تستهوي الشارع العربي اليوم ، لأنه ما حصد منها ، عبر سنوات طويلة من التجربة ، سوى الخيبة و الإفلاس  و الحصرم ؛...... و لا الحركات الإسلامية الأصولية صارت عنده هي من تمثل الخلاص أو صانعة الجنة الموعودة ، لمشيها على حد السيف ، فلا تبقي لهذا المواطن هامش من التفكير أو الاستراحة و التقاط الأنفاس في رحلة الحياة ، بل هي تمسك بناصيته و تصر على قوده كالبهيمة أو الأعمى إلى حيث هي تريد لا إلى حيث هو يتمنى أو يريد .
§    أن مبدأ عدم إمكانية قيام الثورة أو التغيير ،  في أي بلد في العالم ،  إلا بوجود قيادة أو زعامة تاريخية كاريزمية ذات عقيدة أو نظرية سياسية و فكرية محددة ، قد انتهى و عفى عليه الزمن . فما عادت الشعوب ترضى لنفسها أن تقاد كقطيع من نعاج بعصا هذا الراعي أو ذاك .... واضعة نصب عينيها التجارب التاريخية البشرية الألف التي استحالت فيها تلك القيادات أو الزعامات و انقلبت  من قيادات شعبية وطنية ، إلى زعامات دكتاتورية مستبدة ، حكمت شعوبها بالحديد و النار ... فصار البديل الطبيعي و المنطقي لذلك المبدأ ، هو مبدأ أن الشعب يصنع ثورته و قيادته بنفسه ، و ليس القائد الفرد هو من يصنع الشعب و الثورة .......... لقد أثبتت الشعوب في أكثر من بقعة من بقاع الأرض و منها البقاع العربية ، بأنها قادرة على خلق القيادة التي تتواءم و روح العصر ... القيادة الجماعية الديمقراطية ، بدلاً من القيادة الفردية الأوتوقراطية .
لقد بات مفهوم ديمقراطية الحكم السياسي .... و ليبرالية الحرية في التعبير ، بحكم انتشار العلم و التعليم الأكاديمي  لدى الغالبية ، واضحا ، معروف الأصول و الآليات ، في فكر و وعي الجماهير ، بوجه عام ، ولم  يعد أمر معرفته أو إدراكه مقصوراً على نخبة معينة أو فئة محددة  من المجتمع ...
و بالتالي فإن تشكيل الحكومات ، و هيكلة الأنظمة ، و خلق دولة المؤسسات ، و صنع الدساتير ما عادت أحجية أو مسألة لا يفقهها إلا القيادات أو النخب . بل أصبحت علماً أكاديمياً في متناول الكثير من أبناء العامة المتخصصين ... و الأكثر من ذلك أن كل الحكومات العربية المعاصرة ، لا يكمن العيب في مؤسسات الدول القائمة عليها ، و لا في الأنظمة و الدساتير لتي تعلن تبنيها لها  ؛ و إنما يكمن العيب في سدنة تلك الحكومات و القابضين على مصائرها ، المتشبثين بعروشها ، الذين ، من أجل الحفاظ على مصالحهم و ديمومة سيطرتهم على كراسي الحكم فيها ، لا يأنفون و لا يتورعون ،  ليس من وضع تلك الدساتير و الأنظمة على الرف فحسب ، بل و السطو على روحها ، و تحريف نصوصها ، لتتواءم  مع أنانيتهم و شهوتهم للسلطة والصولجان ، فيعملون على تفصيل كل شيء فيها على مقاساتهم الخاصة بهم ، مستبعدين أي طرف آخر ، و ملغين دور تنظيمات المجتمع المدني  بشتى أشكالها عن المشاركة بشيء في إدارة البلاد ، لا بالقول و لا بالعمل . الأمر الذي أفرز ذلك الغضب المضطرم على هذا التغييب و التهميش السافر  للشعب و قواه الواعية   التي صارت تعيش في أوطانها كالغرباء بلا أدنى تقدير أو قيمة و مكانة .
§   و من الدروس التي توحي بها هذه الانتفاضات العربية هو أن الجيش هو من بيده في نهاية الأمر حسم الموقف مع أو ضد أي  طرف من أطراف الصراع  ، لأن العين لا تقاوم المخرز ، و لا الغزال المسالم يستطيع الصمود في وجه النمر المفترس ، فإن كان الجيش جيشاً للشعب و الدولة ( ككيان سياسي خالد لأي بلد ) ، مهمته حماية الوطن و أبنائه من أعدائه الطامعين من الخارج أو الداخل ، و ذا قيادة وطنية ، تضع الوطن و مواطنيه فوق كل اعتبار ؛ كان انحيازه لانتفاضات شعبه المعبرة عن رغبتها في الحرية و في كسر أغلال الأسر و العبودية ، و في استرداد حقوقها المشروعة المهضومة  . و بالتالي انتصار الانتفاضة ، و اختصار الدرب و التضحيات و المعاناة على الشعوب الثائرة .....  و إن كان الجيش جيشاً للحاكم و أراجيزه في الحكومة ، مهمته حراسة العرش ، و حماية سدنته ، و المحافظة على الصولجان في يد المتشبث ببراثنه بكرسي الحكم ، كان انصياع الجيش ،  كالرجل الآلي ، لإرادة الحاكم و أذنابه في الحكومة  ، و يتحول إلى أداة قمعية همجية رهيبة ضد الثورة و الثوار ، قد تختل بها القوى ، بسحق الآلاف من العزل تحت دباباته ومجنزراته و طائراته  ، و يضع الثوار الطامحين للتغيير و الحرية في موقف لا يحسدون عليه ... موقف أبي فراس الحمداني الذي عبر عنه ذات يوم بقوله :-
" و قال أصيحابي الفرار أو الردى ...... فقلت هما أمران أحلاهما مر "
و هذا أمر يضع الجيوش العربية كلها أمام مسؤولياتها التاريخية ، و يجعلها في مفترق الدروب ، و عليها في مثل هذه الأوضاع أن تختار هويتها و رسالتها  في الحياة ، فهي إما أن تكون جيوشاً وطنية تذود عن الوطن و مواطنيه من كل غاشم و لئيم ، أو تكون مجرد دمى في يد الطغاة المرفوضين من شعوبهم و مواطنيهم ، فتخون أمانتها و رسالتها الحقيقية التي وجدت من أجلها أصلاً . ( درعاً للوطن و الشعب الخالد ، لا درعاً للحاكم  الفاسد  )  
§   و هذا الوضع الأخير الذي أحاق  ببعض الشعوب العربية المنتفضة الرافضة  ، بالطرق السلمية ، لحكامها الظلمة المستبدين ، و وجدت نفسها فجأة و بلا مقدمات أو سابق إنذار ، أمام جيش الحاكم الجرار و آلته الحربية  الجهنمية ، جعلها في مأزق عصيب ، و ضعها أمام خيارين صعبين ما عنهما مناص أو محيص ، هما ... الاستسلام و القضاء عليها قضاء مبرماً و تصفيتها جسدياً من قبل الحاكم الجاثم على صدرها منذ عقود ... أو الاستعانة بالشيطان ، بكل ما تعلمه عن طمع و جشع هذا الشيطان المتمثل في الدول الاستعمارية الرافعة ،  (كأحبولة )،  لراية الدفاع عن حقوق الشعوب في الحرية و الديمقراطية ... أي بالموت حرقاً بجحيم الحاكم ، أو بالموت غرقاً بيَمَِ الغريب القادم  ... و لأن الموت بالنار عاجل و سريع ، لا تجدي فيه الإسعافات الأولية ، بل يستحيل فيه الجسد إلى رماد تذروه الرياح ... و الموت غرقاً بالبحر آجل و بطيء ، قد تُجدي في إنقاذه قبلة الحياة  و بعض الإسعافات الأولية  للإنعاش ... و لما كانت غريزة البقاء تأبى الاستسلام  ، اختارت بعض تلك الشعوب المغلوب على أمرها ، و قد تختار غيرها قريباً ، السباحة في اليم المتلاطم الأمواج ، أملاً في وصولها ذات يوم إلى بر الأمان ، فتعيش يوماً أو بعض يوم ثم من بعدها الأجيال  تتنسم عبير الحرية .
و إن اختارت الشعوب طلب النجدة من الغريب الطامع ، فما ذلك إلا إثم و جرم آخر اقترفه أولئك الحكام الذين حتموا على  شعوبهم تجرع الذل و المهانة مرتين ... مرة بأيديهم الملطخة بالدماء و الوحل ... و مرة بأيدي المستعمرين ، الذين أعطوه الذريعة و الفرصة الذهبية للتدخل بصفة المنقذ و المخلِّص . فصار حال تلك الشعوب كالحال التي عبر عنها المتنبي من قديم الزمن :
 " و من نكد الدنيا على الحر أن يرى .... عدواً له ما من صداقته بد "            
و عموماً ، مهما كان عناد أولئك الحكام و  تكالبهم على السلطة  و السلطان  ، و مهما كان حجم التضحيات التي تقدمها الشعوب على مضارج  الحرية  ، لكنها ستنتصر في نهاية المطاف ، لأنه بعد كل ليل مدلهم صباح  ، و لأن إرادة الشعوب من إرادة الله ، و إرادة الله لا تُهزم  .                                                           

              
زهران بن زاهر بن حمود الصارمي
ولاية إزكي – إمطي

§        هاتف 99206716


14/ 6/ 2011


  

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق